الأحد، 31 يناير 2010

في السياسة الاجتماعية برامج للتطوير وخيارات للمراجعة


بقلم : عبد السلام بوعائشة

تسعى الحكومة منذ اعتماد برامج الإصلاح الهيكلي ومراجعة دور الدولة في قيادة النشاط الاقتصادي إلى معالجة التداعيات الاجتماعية الخطيرة لسياسات الخوصصة وانعكاساتها على واقع التشغيل والمقدرة الشرائية للشرائح الواسعة من أفراد الشعب خصوصا إذا ما لزمت الدولة الحياد التام في العملية الاقتصادية واكتفت بالدور الذي يريد الفاعلون سجنها فيه. وبدون الخوض في آليات السوق ونتائجها الحتمية المباشرة وغير المباشرة على حياة الناس يهمنا أن نسجل أولا أن الحكومة وان كانت فوتت للقطاع الخاص في مهمة قيادة الاقتصاد ووفرت له كل الحوافز التشريعية والجبائية والمالية والسياسية ليؤدي دوره المطلوب في التنمية والنهوض بالبلاد إلا أنها تحسبت للانعكاسات المنتظرة لهذا التفويت خصوصا على الشرائح الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة الدخل وكذلك على مستقبل عشرات الآلاف من الشباب القادمين على سوق الشغل يحملون معهم ثقافة الإيمان بالدور التاريخي للدولة الراعية.
هذا التحسب لنتائج المراهنة على اقتصاد السوق بقيادة القطاع الخاص كان وراء عديد السياسات و البرامج الاجتماعية التي اعتمدتها الحكومة من ذلك السياسة التعاقدية بين الأطراف الاجتماعيين وبرامج تشغيل الشباب والتضامن الوطني والنهوض بالأحياء الشعبية ومساعدة الأسر محدودة الدخل والعناية بذوي الاحتياجات الخاصة وبرامج مقاومة الفقر والنهوض بالمساكن الشعبية إلى جانب برامج تمويل الاستهلاك وتيسير الحصول على القروض ... والحقيقة أن هذه البرامج والسياسات ساهمت بقدر كبير في المحافظة على الاستقرار الاجتماعي والحد من تسارع نسق التفاوت بين الفئات والجهات وتغذية الأمل لدى عموم الناس بمستقبل أفضل لهم ولأبنائهم.
غير أن مرور أكثر من عقدين على هذا النهج بدا يكشف محدودية المعالجات الاجتماعية على أهميتها في التعامل مع شراسة قوانين اقتصاد السوق ومحدودية موارد الدولة في متابعة نسق النتائج السلبية المترتبة عنه كما بدا يكشف عن حقيقة كون القطاع الخاص وبالرغم من الحوافز والتشجيعات لم يستطع النهوض بالدور التاريخي للدولة في قيادة عملية التشغيل والمحافظة على التوازنات الاجتماعية الكبرى.
هذا الوضع وان كانت تبدياته بارزة في واقع الحال من خلال استمرار نسب البطالة المرتفعة وتزايد ظاهرة التداين الأسري ونزوع الشباب نحو الهجرة والعزوف عن العمل الايجابي فان المؤشرات  تنبه إلى أن القادم قد يكون أصعب وأقوى من قدرة الدولة على استيعاب نتائجه خصوصا كما اشرنا سابقا مع محدودية موارد الدولة وشراسة قوانين اقتصاد السوق. وللوقوف عند بعض هذه المؤشرات لا بد من القول ان عقدين من السياسات الاقتصادية التحررية وما صاحبها من سياسات ثقافية وإعلامية محمولة على خطاب العولمة في الداخل والخارج أحدثت تشوهات خطيرة في العادات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لدى أفراد الشعب والنخبة فأضعفت عقلية الإنتاج والالتزام الوطني والاجتماعي وغذت ثقافة الاستهلاك والربح السريع والنزوع إلى الفردية والتحرر من القيم الجامعة في جميع أبعادها وخصوصا بعدها الوطني والاجتماعي والأخلاقي وهو ما نرى تأثيراته الواضحة على العلاقات الأسرية وسلوكات الشباب ومواقف النخب . هذه الوقائع المؤشرة تمثل عبئا جديدا على الدولة وبرامجها الاجتماعية يضاف إلى الأعباء الثابتة التي فرضتها خيارات و آليات اقتصاد السوق واستهدفتها الدولة بالعلاج طيلة العقدين الماضيين نجحت خلالها في الحد من تداعياتها لكن دون النجاح في إيقاف نزيفها الخطير.
من المؤشرات الأبرز  على أن التداعيات القادمة قد تكون اخطر هذا التفكك الكبير والجمود الذي تشهده مؤسسات العمل الحزبي والجمعياتي الوطني وهي التي من المفروض أن تتحمل عبء قيادة المجتمع في المستقبل من ذلك ما نراه من نخبوية في الهياكل وفردية في الأداء وتأزم في العلاقات الداخلية للأحزاب والمنظمات على حد سواء كما هو الوضع في أحزاب المعارضة بدون استثناء و في رابطة حقوق الإنسان واتحاد الطلبة وجمعية الصحافيين التي تشكو كلها من تجاذبات عطلت مسارها وأضعفت دورها في التاطير والقيادة رغما عن متطلبات المرحلة .نفس الوضع يعيشه مجمل النسيج الجمعياتي الذي قد نتفاخر بإعداده المتزايدة  لكن لا نكاد نرى تأثيرا ايجابيا له في التصدي للتداعيات القائمة.
أمام هذا المشهد لا نستطيع إلا أن نؤكد أولا على أن البلاد تمر فعلا بتحديات كبيرة فرضها رهان الحكومة على اقتصاد السوق وسياسة الاندماج في منظومة العولمة ولسنا نشك في أن شعار البرنامج الرئاسي في الانتخابات الأخيرة" معا لرفع التحديات" كان يستحضر هذا الوضع ويستشرف نتائجه القادمة كما أن الكلمة الرئاسية الأخيرة في اجتماع مجلس الوزراء وتأكيدها على قيم  المسؤولية في إدارة العمل الحكومي والحرص على المبادرة وحسن مسك الملفات والتحرر من عقلية انتظار التعليمات تبرز هذا التحسب للتحديات القائمة و القادمة كما تبرز تمثل صناع القرار لدقة المرحلة ومحدودية الخيارات التي يوفرها هامش الرهان على اقتصاد السوق وآلياته . ونؤكد ثانيا على أن فشل برامج الحكومة في تصديها لانعكاسات الخيار التنموي رغم الحد منها تدعو إلى ضرورة البحث عن مقاربة تنموية جديدة تستعيد بها الدولة زمام المبادرة الاقتصادية و تعيد ترتيب الأولويات التنموية وفقا لمصالح عامة الشعب ومصالح أجياله القادمة وليس وفقا لمصالح بعض فئاته ومصالح الشركات الأجنبية الباحثة عن الربح لان المقاربة الاقتصادية البحتة وخصوصا في صورتها الرأسمالية لا يمكن أن تراعي الجوانب الأخرى في حياة المجتمع كالهوية والعدالة الاجتماعية وتكافئ الفرص والعدل بين الجهات وحماية البيئة وضمان مستقبل الأجيال.
لا خيار أمام الحكومة الراعية لمصالح الشعب إلا أن تمسك بزمام التنمية وتعطي للبرامج مضمونها العادل الذي يحقق الاستقرار الحقيقي لكل الفئات  ويضمن فرصا للتشغيل أمام الجميع و يحفظ للدولة سيادتها وحرية قرارها ويحرر الأفراد والأسر من عبودية رأسمال العالمي متعاظم النفوذ وثقافة السوق الجارفة لمستقبل الأجيال. هذا الخيار و إن كان صعب المقاربة ألا انه يدعو إلى ضرورة تدعيم حضور الدولة في قيادة برامج الاستثمار و فرض الرقابة على المؤسسات الاقتصادية والتدخل الحازم دفاعا عن الشرائح الضعيفة وتطوير نظم الجباية بما يحد من التفاوت المتعاظم بين الفئات ويعزز موارد الدولة ويخفف العبء على الأسر والعمال. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق