السبت، 14 نوفمبر 2009

ثورة التسول الكبرى، محمد فوزي عبد الحي


ثورة التسول الكبرى


ربما أوحي ظاهرها بطابع مؤامرة دنيئة تحاك ضد الأمة، والواقع أنها نوع من الخبال والسعال والإسهال الفكري الذي أصاب عقول وأنوف وبطون كثير ممن تسنموا قيادة العمل الاجتماعي المصري متخذين منه واجهة إعلامية، ووجاهة اجتماعية، ووسيلة للكسب غير المشروع، وهذا نوع من السبهللة (السبهلل: الفارغ من كل شيء، أي الذي لا خير فيه، وفي اللسان: يقال: هو الضَّلال بنُ السَّبَهْلَل أَي الباطل. ويقال: جاء سَبَهْلَلاً لا شيء معه... وجاء فلان سَبَهْلَلاً أَي ضالاًّ لا يدري أَيْن يَتَوَجَّه) الفكرية والمؤسسية للنشاط الاجتماعي أقل ما توصف به أنها "جعجعة كاذبة".. أليس هذا توصيفا واقعيا لغالب المجالس والمؤتمرات والجمعيات المعنية برفع المستوى المعيشي والتعليمي والمهني والصحي للمرأة والطفل والأسرة العربية والمصرية على الأخص، ودعم الحراك السياسي والاجتماعي للفئات الفقيرة والمعدمة والمهمشة؟
فدولة كمصر عريقة في غناها ومواردها وتاريخها الاستبدادي تحفل بمئات الآلاف يعيشون في المقابر، يشاطرون الأموات مخادعهم، ويزعجونهم بآثامهم ورذائلهم، وينتهكون الخشية العميقة لهذه المدائن الصامتة... مئات الآلاف من الأرامل واليتامى والثكالى ومن لا عائل لهم ولهن... ملايين العاطلين، جيوش من الحيارى المشردين، آلاف من اللقطاء المظاليم؛ ثمرات عجاف لخيانة فجة في حق الله والأمة والشرف والمروءة والأخلاق.. حدائق بنت المعز شاهد عيان على أزمة الفكر السبهللي، والجمعيات السبهللية، ومجالس السبهللة النسائة التي تعقد مؤتمرات الزغللة والبهللة للدفاع عن المزعومة حقوق الطفل والمظلومة حقوق المرأة، وكما قال الأول: أسمع جعجعة ولا أرى طحنا، فإننا نسمع صخبا مثيرا وكلاما خطيرا ولا نرى على أرض الواقع مأثرة أو واقعة تستحق الإشادة والتسجيل..
يزداد عدد الفقراء مع كل صباح جديد، ويرتفع عدد المطلقات بشكل يدمي القلوب المؤمنة، ويبعث العقلاء على التفكير مليا في مستقبل أمة تتهدم فيها اللبنات التي تحفظ الدين والتقى والطهارة والحياة، أليست الأسرة هي الحصن الأخير المتبقي بعد سقوط حصوننا الأمامية، سقط حصن السلطان، وسقط حصون أهل العلم، ولم يبق إلا الأسرة مربط العفاف ومنبع الصمود..
الأمراض تلتهم الفقراء التهاما نتيجة للتلوث الصناعي والبيئي، وسرطنة وهرمنة الزراعات، يجري كل هذا بينما هناك طوقة من المهرجين المنتفعين بخيرات الأمة تنظر لهذا الشعب، وهو يقاسي الأمراض والأوبئة والتلوث والفقر والموت، والسادة نجوم المحافل والبرامج والمؤتمرات يصدعون أدمغتنا ويملئون مسامعنا بغثاء كذبهم المفضوح ليل نهار..
ونتيجة لتراكمات ثقافة الخيانة والهبش، والتجويع واللطش – تفجرت ثورة التسول الكبرى في تاريخنا المعاصر، إنها ثورة السرقة المرتدية لباس القانون والناجمة عن ثورة السرقة القانونية المعاصرة.. متسولون يطرقون أبواب البيوت، متسولون يصدعون بعبارات الوعظ الرقيق والدعوات المأثورة في الحافلات الجماعية، ومتسولون لصوص يمارسون مهنة التسول بأطفال لقطاء، وبنات يتيمات، متسولون في مواقف سيارات الأجرة، متسولون يحرمونك النوم في القطارات، متسولون في المساجد، والجامعات، والمستشفيات، والمصارف.. متسولون في الحدائق العامة ومحطات الركاب على الطرق ..متسولون .. متسولون .. متسولون..
كل هذا يجري مع إن المدعوّة "معدلات" التنمية تزداد كل عام، وبنت عمها "فرص" العمل تلوح في الأفاق لكل طالب، وعدد الجمعيات الموسومة بالخيرية، وعدد الاجتماعات والنجوم الأخيار والقيادات النسائية يخرجن علينا من نوافذ وشبابيك وفتحات ومناور المذياع والتلفاز والصحف والمجلات الأموية.
أضحى المناخ المصري كله مناخ تسول؛ علية القوم يتسولون موائد أمريكا والاتحاد الأوربي، والمتسلطون يتسولون ثروات الشعب سرقة ونهبا، وآثار الشعب تهريبا وبيعا، وأرواح الشعب اتجارا وسرقة وتقطيعا واستغلالا، وطالت الكارثة أرباب الفكر فأضحى الكتاب يبيعون أقلامهم لمن يدفع؛ حزب يتسول موائد أكاسرة فارس، وآخر يتسول موائد قياصرة أوربا، وثالث يتسول موائد أنظمة دخلت جميعها سجل الموسوعات القياسية من الأبواب الخلفية، وهناك فرق تسول تلعب في دوريات أقل شهرة تتسول وظائف البلاد وأرزاق العباد دون كفاءة أو استحقاق بقوة السلطة والمال وأحيانا البلطجة.
يبدو الأمر وكأن واحدا من شيعة عائلة "فساد" - والتي أصبح لها النصيب الأوفر من حياة ووطن ودماء المصريين، ولها أجنحة خاصة في جامعاتهم ومعاهدهم ومصانعهم وشركاتهم ومستشفياتهم ومجالسهم ومؤتمراتهم وجمعياتهم - قد ألقى نطف التسول في ماء النيل وولّى وتركها دون رجعة، ومعروف أن التسول أحد أبناء السيد "فساد الشاطر"، وسلسلة النسب الكريم للسيد فساد معلومة للجميع، فهو ابن السيد "ظلم الشاطر"، والسيدة "خيانة الشاطر"، وجده لأبيه وأمه السيد "استبداد الشاطر" عليهم لعنة الله أجمعين، وقد أنجب من الذرية الكثير، وأسماء عشيرته لا تخفى عليكم!!!
لم تثبت سوى فئة قليلة شريفة لعلهم من أومأ إليهم المعصوم صلى الله عليه وسلم بقوله: "طوبى للغرباء قيل: من الغرباء قال: أناس صالحون قليل في ناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم." أخرجه الطبراني.
وفي ظل هذه المناخ التسولي، تفنن صغار المتسولين في طلب ما في الجيوب، فتخصص بعضهم في التسول الطبي؛ فتراهم ومعهم الوصفات الطبية (الروشتات)، والأشعة والتحاليل والتقارير، أما عيونهم فلا تسأل عنها فهي دامعة هامعة ، ذليلة خاشعة، تتفطر منها القلوب وتتفتح لها الجيوب!
أغرب ما قابلت من ذلك أحد المتسولين أمام مستشفى الدمرداش بالقاهرة، أوقفني، وخاطبي: يا شيخ، أخت ميتة في المستشفى ونحن من كفر الشيخ، ونريد تحصيل أجرة سيارة نقل الموتى وثمن الكفن..
وبعد مرور أسبوعين، وفي المكان نفسه، لقيني هناك فأوقفني ثانية، وبدأ يحكي القصة ثانية، حيث يريد سيارة لنقل جثمان الميت، فقلت له، هي الأخت الميتة ما زالت في المستشفى من ليلة ما قابلتني؟؟!!
تخصص فريق آخر في التسول الأسري متذرعا بخلفة البنات، ومشاكل زواجهن وتكلفة تجهيزهن، وطلاق البنت وترك الزوج النذل أولاده لها دون عائل...بينما تخصص فريق ثالث في التسول القومي، فانتمى إلى فلسطين، وخاصة غزة الجريحة، فتطرُق إحداهن البيوت تسأل أهل الفضل طعاما لبناتها الفقيرات اليتيمات وأخواتها الأرمل اللاتي أثكلهن الأعداء وأعرضت عنهم النعمة وركبهم البلاء والنقمة.
امتهن كثير التسول، فخرجوا في مواعيد عمل تناسب تحصيل أرزاقهم المرذولة، ترتبط بموعد قطار بعينه أو تجمعات خاصة أو صرف موظفي إحدى الشركات لرواتبهم.. ربما تكون جالسا في لقاء مع أحد معارفك أو عملائك أو زملائك فتجد ظرف التسول يدور في الشركة أو على شقق العمارة أو في مدرجات الجامعة، مكتوبا عليه مشكلة المتسول وظرفه العصيب..
لا يُنكر أن هناك حالات حرجة، وأناسا في حالة عوذ وحاجة ملحة، ولكننا اليوم نعيش ثورة التسول الكبرى، اختلطت الحاجة للعيش بالحاجة إلى وظيفة، والحاجة إلى طعام بالحاجة إلى بيت ومشروع وتأمين للمستقبل..وصار التسول مهنة وباب رزق، وخيار استرتيجي يمر عبر أنفاق غزة.
هنا تبحث عن ملايين أوروبا ومعوناتها، وعن الجمعيات الخيرية ودورها، وعن المجالس القومية، والمجلس القومي للمراة – ربنا يجعلنا في بركاته – الجميع مشغولون بقضايا مصر الجوهرية: محو الأمية، والختان، ومكافحة الزواج المبكر، والزيادة السكانية!!!
هل يعقل أن تنشغل أمة بهذه الأمور، وملايين البشر بلا غذاء ولا سكن ولا مأوى ولا عمل ولا أمل، ولدينا آلاف يبيعون أنفسهم من أجل جنيهات لشراء الضروريات الأساسية بينما عدة مئات ينفق أحدهم ملايين الدولارات على ساقطة، ويقيم أحدهم حفل زفاف على خليعة يكلفه ملايين الجنيهات، ويزوج ثالث ابنه في حفل أسطوري، ويقوم الإعلام ويقعد بأخبارهم على الصفحات الأولى، وصدق المتنبيء: وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكا، وصدق حافظ إذ ردده بعد ألف عام: وكم ذا بمصر من المضحكات كما قال فيها أبو الطيب!
لا بد من مراجعة أولويات هذا الوطن، وإيجاد حلول جريئة بديلة تناسب منظومة هذا المجتمع القيمية، وتخرج به من كبوته التاريخية، وتخطو به قدما للإمام، إن الأمة في محنة تاريخية، والعجب العجاب من النومان الغافل عن هذه المحنة، ولا تنتظر اليقظة والصحوة ولن تنقشع الغفلة إلا بالقضاء على التسول الفكري والوظيفي والاجتماعي الذي تغص به الزوايا العفنة من أرض أمتنا الغالية، وذلك بإصلاح التعليم والعودة إلى ظلال الدين، وحينئذ يمكن أن نربي جيلا مؤمنا صادقا يستحي بل يأبى أن يمد يده متسولا أو سارقا أو خائنا أو مختلسا، جيلا يزيل كلمة التسول من مفردات قاموسه، جيلا من العاملين الأكفاء الأحرار... دعونا نحلم بوطن طاهر ومواطن صالح، وربما لا تكون أضغاث أحلام!!

محمد فوزي عبدالحي
Faqeeh2life@yahoo.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق