الأحد، 29 نوفمبر 2009

إعتذار خارج الأسوار


يكتبه بكل إحباط:  د. سليــــــــم دادة

أن تُبرمَج تغطية إعلامية مكثفة من أجل فعاليات مباراة استثنائية، الفائز فيها سيتأهل إلى نهائيات كأس عالمية، فهذا أمر وارد ..
أن تشحن الأعصاب و تعلو الهمم و تتطلع الآمال للفوز، فهذا أمر محبوب ..
أن تشحذ النفوس و يتجلد بالصبر اللاعبون، فهذا أمر مطلوب ..
أن يشجع كل ٌ فريقه و لاعبه المفضل، فذاك مما يزيد في الإثارة و من متعة الترقب و من حرارة المشاهدة ..
أن يستوي كل هذا على نار هادئة في ظل روح رياضية تؤمن بالفوز و بالخسارة، و تؤمن بالنصر لمن يقدم الأفضل فذاك عين العقل ..
أن يحدث ما نستنكره بشدة بعد انتهاء بعض المباريات من أحداث شغب و تبادل كلمات نابية بين طرف سعيد بفوزه و آخر غاضب لخسارته، أمر تعودنا و للأسف مشاهدته في اللقاءات الحاسمة و حتى في الدول المتطورة و المنظَّمة ..
أن تعم الفرحة الشوارع و أن يهنئ الطرف المنهزم نظيره الرابح لهو قمة الروح الرياضية و الهدف الشعوبي من هذه الرياضة ..
هذا الذي كان يجب أن يحدث نظريا..
لكن ما الذي حدث عندنا فعليا؟
خروج عن سياق المباراة و تجاوز الكرة لأسوار الملعب ..
مناورات  إعلامية .. رشق مُدمي للاعبين زائرين مسالمين .. إرهاب مشجعين و مناصرين ضيوف ..
عدم الاعتراف بالخطأ بل و تكذيب لكل الأدلة الداحضة و وسائل الإعلام الدولية بل و وصل الأمر إلى اتهام المجني عليه بتلفيق التهمة و المراوغة.
وسائل إعلامية من الطرفين تشحذ أحدّ سكاكينها و تخرج أقوى أسلحتها .. و تُعلَنُ الحرب  الإعلامية بين جريدة صفراء و قنوات تليفزيونية تجارية ..
الكل يترقب آخر فيديو، و ألذع أغنية، و أقبح صورة، و أَزْوَرُ شهادة من مجهول.
أدِلّة و بصمات يغذيها الهواة و العاطلون و المهووسون بالكرة من المتعصبين، و التي تفتقد لأدنى شروط المصداقية و الأمانة،
و مع هذا تجد من يستعملها من الإعلاميون "المحترفون" كحقائق دامغة و إثباتات رسمية .
و للأسف يصدق الشعب كل ذلك بل و يساهم في نشره.
 يحدث بعد فصل الختام و فوز أحد الفريقين، فصل كامل من التشنج و التوتر بل و من التهور، إثر زوبعة مكالمات و فيديوهات قديمة تروّج و على المباشر في العديد من القنوات الفضائية للفريق المنهزم، زوبعة تذهب حفيظة كل متحفظ، و ترعب كل هادئ متفرج، و تروع كل مسكين مقهور بهزيمة علق عليها كل الآمال و مفجوع بمجزرة يسمع غوغاؤها من كل مكان من دون أن يرى أو أن يتبين شيئا ..
في الظلام الدامس لا يصبح الجنون أمرا صعب المنال و لا مستحيل الحدوث.
هنا تبدأ الحملة الشعواء و التصريحات المكلوبة تجاه شعب كامل و بلد بأكمله: بتاريخه و بمقوماته و بلغته و بمميزاته الاجتماعية و الثقافية ..
دولة كاملة تشهد موجة من الاتهامات و القذف و السب و التجريح ..
فيتهم شعبها بالهمجية و الإرهاب، وتوصف نساءها بالبغاء و الرعونة، و يسمى أبناءها لقطاء و بنو زنى، و ينعت شهداءها بالجِزم.
أين هذا؟ ..
على مسمع و مرأى كل العالم
و من أين؟ ..
من على منابر إعلامية فضائية مشهورة يتابعها الجميع
و ممن؟  ..
من شخصيات إعلامية معروفة، و من مشاهير الممثلين و المغنيين، و من رجال السياسة و أصحاب المصالح، و من رجال ينسبون إلى الرياضة ..
ضف إلى ذلك مكالمات من مجهولون تبث الرعب في نفوس الناس.
كل هذا مع المزايدة في لهجة الخطاب و التفنن في ضروب الشتم و السب و القذف، و التصعيد من الإفك و البهتان  و من الترويع و التضخيم، و مواصلة  الكذب و التلفيق، و كلام هراء يفتقد لأدنى موضوعية و روح مهنية، و تصريحات غير مسؤولة لا تمت بصلة لأخلاقيات مهنة الإعلام الرزين و الأمين.
هذا كله يحدث و العالم محدق و مندهش بين مصدق قد واتته الفرصة لإفراغ ما في جعبته من كبت و حقد و غل، و بين مكذب متريث في اتخاذ قرار لا يعرف من يصدق؟
أجيش إعلامي جرار منظم في حملة وحدها كانت ستكفي لفك الحصار عن غزة؟
أم دولة متهمة بأقذى الجنح و لا تحرك ساكنا و لا تقاوم إعلاميا، اللهم إلا بعض الصحف المحلية و فيديوهات شباب مدمن على اليوتوب. 
حتى أن الشعب المتهم احتار في أمره، أهو المقصود حقا أم دولة أخرى قد تسمى إسرائيل على أرجح تقدير..
ثم كيف و لِم يحدث هذا؟ و أين ذهبت فرحة النصر؟
دولة قاومت الإرهاب لمدة 12 سنة أريقت فيها أكثر من مائتي ألف روح، توصف اليوم بالإرهاب، و تحرم من لحظة فرحة فارقت ذكراها منذ عقود.
ثم كيف يوصف بأعتى النعوت شعب قاوم محتله و دافع عن عرضه و أرضه و ماله و حارب عدوه لسنوات طِوال بلا هدنة، ساقيا أرضه بدماء مليون و نصف مليون شهيد قهروا أقوى حربية زمانها و أشدها قسوة و عدائية؟
ثم كيف يُنتقص من أخلاق من فتح بابه مصراعيها كرما و أعطى الأمان لكل داخل بيته جوادا بما وجد و مقتسما بما فاض به خير هذه الأرض، هكذا و من غير مقابل، سوى حبا في الأخوة و العروبة و الدين و حسن الجوار و كرم الأخلاق؟
ثم و لنفترض أنه قد حصلت فعلا تجاوزات و مناوشات بين مناصرين متهورين غاضبين.
و من غير الانطلاق في جدلية من بدأ؟ أو من سبق بالظلم؟
فهل تعطي هذه المناوشات حق التطاول على دولة كاملة وعلى  سيادتها؟
و هل يجوز تجنيد جيش إعلامي كامل للنفخ على أبواق حرب و دق طبول معركة تدعو الناس إلى تقتيل و تذبيح كل منتسب لشعب الهمج على حسب تعبيرهم ؟
أو أيستدعى هذا عقد اجتماع طارئ لأركان الدولة لم يعقد منذ حرب 73 يدلي فيه خطاب الرئيس شخصيا و يصرح فيه و في سابقة تاريخية بأن كرامة المواطن من كرامة الوطن؟
أكان يجدر أيضا إتهام أمن البلد المحايد و المضيف للمباراة بالتقصير و التواطؤ مع الطرف الآخر، ويتطلب الأمر تعكير علاقات دبلوماسية عتيقة هشة و تعريضها للانهيار؟
أم كان يستحق هذا الوصول حتى إلى الجامعة العربية و الطلب من رئيس الإتحاد الإفريقي التدخل لاحتواء الوضع و الإصرار على تقديم إعتذار رسمي من دولة "البلطجية"؟
ألم يكن من الأجدر منذ البداية أن تبقى الكرة داخل أسوار الملعب و أن يُتعامل مع الأمور على أساس أنها لعبة رياضية، جلد منفوخ تتقاذفه الأقدام؟
بعد يومين من بداية الحملة نتنفس الصعداء ولله الحمد.
فالأمن الرسمي للبلد المضيف يثبت عدم حدوث أية تجاوزات و أن كل ما قيل لم يكن إلا بهتانا و باطلا.
ثم يشهد مسؤول دبلوماسي و على المباشر بعدم تعرض أيٍ من رعاياه لمكروه و بأن الجميع عائدون إلى بلدهم بسلام و من غير أذى.
ثـم تأتي عديد القنوات الرسمية المحايدة و المعروفة بمصداقيتها كي تفنّد كل الدعاوى و الاتهامات الباطلة بل و تَدحض كل حججها الواهية.
ثم تظهر كواليس الأفلام المركبة و الإتصالات المشبوهة و الصور المزيفة و الأدلة المنسوبة للحدث و التي ثبت وجودها على النيت لأيام قبله.
ثم يصرح فيما بعد وزير الخارجية البلد "المجني عليه" بأن العشرة آلاف مناصر رجعوا كلهم إلى  بلادهم بسلام  و في أقل من 12 ساعة، ثلاثة منهم فقط دخلوا المستشفى بجروح طفيفة و خرجوا منه في يومهم.
ما فهمناه إذن هو أنه في الوقت الذي كان فيه مناصروا الفريق المنهزم يستقلّون طائراتهم عائدين إلى بلادهم، و في الوقت الذي كانوا فيه مع عائلتهم و أصدقائهم و على المقاهي.و في الوقت الذي كانوا يشاهدون فيه مع الجميع حملة إفك و بهتان و كذب توحي للناس بأن مذبحة تتواصل منذ أيام و بأن الضحايا يعدّون بالعشرات بل بالمئات، مذبحة قام بها شعب كامل و سوقت لها دولته طائرات حربية و أخرجت لها من في السجون.
إذن سؤالي المطروح الآن لن أوجهه لوسائل الإعلام، هاته التي باعت ضميرها في سعيها اللاهث وراء الربح  العريض و الشهرة الزائفة و المصلحة المشتركة، و خصوصا بعد انكشاف خيوط اللعبة المؤامرة، و بعد تبنيها سياسة الغناء في الحمّام بتصعيدها المتواصل للوضع،حتى بعد تفنيد كل ما قيل و حُبك و بعد إنهيار الدعائم التي قامت عليها هذه الحملة الشرسة.
لكن  سؤالي هذا سأوجهه لك أنت أيها المواطن البسيط .. أنت أيها الرجل الشريف .. يا من عاش الحقائق و وصل إلى أهله سالما.. و يا من يسمع إلى اليوم بكائية  ترفع على ذكراه و هو الحي الذي لم يمت:
أرضيت أن تكون مناحة النائحات و مندبة النادبات و وعد المنتقمين؟
أم رضيت أن تكون شهيدا بلا إستشهاد أو شاهد زور و لو شيطانا أخرسا؟
أم تراك أبيت إلا أن تكون بيدقا على رقعة شطرنج إن لم يضحّى بك بداية اللعبة سيضحى بك في نهايتها؟
أم أنها أعجبتك نفسك و الإعلام يتحدث عنها ليلا نهارا و يشيد بدورها البطولي  في مسرحية شاهد ما شافش حاجة؟ 
و أن يصفق لكرامتك أو يصفق عليها -لست أدرى، في الاجتماع الطارئ لمجلس الأركان و هي الكلمة التي لم تدخل ذاك الصرح إلا اليوم؟
أم تراك لا تعلم أنه ثأر سيطلب من أجلك و نار حقد تؤجج اليوم للانتقام من البلطجية و البربر الهمج الذين قتلوك و قطعوك و مثلوا بك و أنت الجالس في حضن أمك سالما معافى؟ .. أفكرت في الأم التي ستُثكل جراء صمتك؟
أم تراها هي الوطنية الجديدة التي علمتك الانصهار و الذوبان في قِدر إحراق الذات و حرمانها من حق الحياة و من عزة النفس و كرامة القيم تحت غطاء المواطنة الضيقة تحت شعار أصحاب الثأر "أنا و أخي على إبن عمي" ؟
أم لعله الخوف و الرعب الذي تعيشه يوميا ما بين مطرقة نظام متجبر و سندان فقر و فاقة؟
صديقي المواطن الطيب الشريف، لن ألح عليك السؤال أكثر من هذا، كما أني لن أصرّ على الإجابة.
 بل سأدعك لضميرك و لوازعك الخُلقي كي تقرر ما ستفعله إزاء ما حِيك حولك  وما ينسج من أجلك، و إزاء إقحامك العسريُّ  في هذا المنزلق اللا أخلاقي الخطير من دون استشارة لديك و لا رغبة منك.
و لأني أريدك أن تعلم بأنه رغم كل ما حدث و ما قد سيحدث، بأننا شعب أذكى من أن تنطوي عليه لعبة سافلة كهذه و بأننا نفرق جيدا ما بين الشعوب و ما بين حكامها. فإني أدعوك بعد كل الذي سمعته مني، بأن تحكم عقلك و أن تكون صريحا و لو مع نفسك على الأقل، و أن تجيبها هي لا أنا عن سؤالي الذي أطرحه عليك اليوم، و من خارج الأسوار:
"بالله عليك من له الحق في المطالبة بالإعتذار ؟"
د. سليــــــــم دادة
مؤلف موسيقي و فنان جزائري
29 نوفمبر 2009 إيطاليا


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق