الأحد، 29 نوفمبر 2009

حول خاتمة المباراة بين النكبة والنهضة


مطاع صفدي

العرب ينتظرون التغيير أن يأتيهم من الخارج، من عالم الآخرين، ومن قائده، رئيس أمريكا تحديداً. العرب مشغولون بأسئلة الحقيقة والوهم عما ينتويه التغيير الأمريكي حيال قضاياهم. لكن أحداً منهم، ومن حكام أنظمتهم، لا يبدو أنه يطالب نفسه أو شعبه بأية مبادرة في ثقافة التغيير، أو في مجال البسيط من مشتقاته أو مقدماته. فقد اتفق أسياد السلطة العربية على أن وثيقة السلام مع إسرائيل، هي سدرة المنتهى. يبقى على المجتمع الدولي الذي رحب بالوثيقة منذ إعلانها، أن يقنع إسرائيل بقبولها. لكن أمريكا البوشية تجاهلت الوثيقة وأقنعت إسرائيل بعمل كل شيء من أجل تمويت الوثيقة وإجهاض مستقبلها مقدماً. وهكذا كان، لولا أن الأوبامايا جاءت بعاصفة التغيير إلى صميم البيت الأبيض، وفي لحظة تأرجح أمريكا على شفا الهاوية التي حفرتها هي لنفسها بمعاول أحلامها الإمبراطورية المنهارة.
ربما أمسى بعض الفكر الأمريكي الموضوعي يدرك أن المدخل الرئيسي إلى ساحات الإنقاذ المستعصية، صار له عنوان وحيد طاغ، هو المواجهة الشجاعة لما لا يجرؤ أحد الاستراتيجيين من كبارهم على البوح بعبارته بعد. إنه فك المصير الأمريكي عن المصير اليهودي. فالعبارة هذه صارخة أشبه بالصاعقة التي لن تكون قوتها أقل من صورة الإفلاسات الكبرى لأضخم مصارف أمريكا، المتورطة في فقاعات الاقتصاد الافتراضي، أو الاحتيالي بالأحرى، وهي في معظمها مملوكة أو مدارة، من قبل عمالقة المال من ذوي الديانة المعروفة بسلطانها المطلق على خزائن الثروات الفلكية لغالبية المعمورة، وشبكيات حركياتها الالكترونية السرية فيما بينها. فالإعلام المسيطر هو المانع لأقلامه وشاشاته من كتابة نصوص الحقائق أو الكشف عن وجوه رموزها، وذلك ليس تهيّباً من الاتهام بذهنية المؤامرة، لكن لإخفاء كل معالمها أو تحريفها. هذا بالرغم من أن الأوساط الشعبية، وليست النخبوية أو المالية وحدها، تتداول أسرار النكبات المتتابعة كأخبار عادية يومية، مكشوفة بالأسماء وأفعال الارتكابات للقاصي والداني.. هناك القائلون أن الجدران العالية لناطحات السحاب النيويوركية لا تزال صماء بكماء، وما قد يتساقط من نوافذها الضيقة من أصداء المعلومات المكبوتة، يمتصّها فوراً صخب الشوارع الهائجة المائجة، لكن من دون أن يثمر الصخب غضباً.. وتفسير هذه الظاهرة العجيبة في رأي البعض من هؤلاء، هو أن صانعي الأزمات الكبرى لا يزالون هم أنفسهم المسيطرين على إجراءاتها وتداعياتها، بل هم المحتكرون كذلك لعلاجاتها أو حلولها المفترضة، شرط ألا تتعرض لأسبابها الحقيقية.
يحدث هذا في أمريكا التي تتغير لكي لا تتغير. أما ما يحدث عند العرب فإنهم امتنعوا حتى عن التظاهر بالتغيير، خوفاً من أن يفلت ثمة تغيير ما من بين أيديهم، أو من تحت أنظارهم يندمون عليه، هنالك تسميات عديدة لأحوال جمودهم: في حقبة إجماع النظام العربي الحاكم على إنكار شرعية الوجود لإسرائيل، فقد انسحب هذا الإنكار على واقعية الوجود الإسرائيلي، وما تمثله من أخطار وجودية على كافة عوامل النهضة العربية واستقلاليتها الحضارية الموعودة. وبذلك أعفى أصحاب النظام التقليديون دولهم وأنفسهم من أعباء أية استراتيجية دفاعية نهضوية حقاً، تحقق نقلة نوعية من نموذج المجتمع القروسطي ودولته الاستبدادية، نحو المجتمع الحر الحداثوي، المفيد والمستفيد من تفتح إنسانية كل أفراده.
في الحقبة الثانية وهي الراهنة، انفرط الإجماع العربي حول مبدئية الصراع مع الكيان العبري. لكن ليس ثمة اعتراف كلي بشرعية الكيان، وإن تنامى نوع من درجات القبول به كواقع قائم، متفاوت بين دولة عربية أو إسلامية وأخرى. خلال الحقبتين راح الكيان في سباق مع الزمن، يستكمل عوامل التطور والقوة العصرية، كمجتمع مدني عسكري في وقت واحد. كان يستجمع سكانه من شتات العالم، ليبني منهم ثمة وحدة لشعب طارئ على أرض ليست وطناً له إلا بفعل إرادة الاستلاب المستمرة إلى آجال ستظل محدودة، ومشروطة بحيوية هذا الاستلاب عينه. أما التطور في الجهة العربية المقابلة فلم يكن ممتنعاً كلياً على مجتمعاتها. لكنه تطور عكسي الإتجاه بالنسبة لأهم مقاييس التنمية الإنسانية والمادية المتداولة عصرياً. كأنما كان هناك شرط ميتافيزيقي معلق فوق كل مجال للتغيير ينفتح أمام إمكانيات التاريخ النهضوي المأمول في كل قطر عربي متحرك. ينصّ هذا الشرط على تثبيت عجز الشعب عن إيصال إرادته إلى مواقع القرار السياسي في دولته. ليس من المبالغة الحكم القائل بأن ثلاثمائة مليون من البشر العرب عاشوا نصف قرن، كأنهم لم يعيشوا أبداً. فأية نهضة سجلها التاريخ بدون شعب. تلك هي المسألة المركزية.
خلال واحد وستين عاماً من عمر الكيان العبري، الذي هو كذلك عمر النكبة الموصوفة بالفلسطينية أولاً، ثم بالعربية، وفي الختام بالنهضوية الشاملة كان ثمة مباراة وجودية بين ترسيخ الكيان العبري، مقابل إحباط النهضة العربية. هذا لا يعني أن زراعة الكيان العبري قد افترضت انعدام أو إعدام إمكانية النهضة العربية، بل ربما كان الأوضح من هذا بحسب لغة علمية هو القول أن الخارطة الجيوسياسية المفروضة على الخارطة الطبيعية والتاريخية للوجود العربي قد أعاقت كل مشاريع التغيير الواقعة تحت مفردات الاستراتيجيات النهضوية. وكان من أخطر مفاعيل هذه الجدلية العقيمة استمرار كل من هاتين الحقيقتين المتلازمتين، في الواقعين الذاتي والموضوعي للأمة: الأول تجسد في عزل شعوب الأمة جملةً وتفصيلاً عن قراراتها الوطنية والقومية في لحظاتها الفاصلة، وذلك بمنعها وامتناعها من إطلاق إمكانياتها الدفاعية والإنسانية المكبوتة، تحت طائلة كل أشكال الاستبداد والعسف والإجهاض والتشويه، والتضليل العقلي والأيديولوجي بخاصة. وثانيهما، يتمظهر دائماً في حالات من تكثّف العنف التدميري المباشر الذي يفرضه، ويبثّه الكيانُ العبري في محيطه العربي الذي يبادله داخلياً بالمزيد من اختطاف فرص التغيير السياسي والنهضوي في نظمه ومجتمعاته. دون أن ننسى أن هذه الجدلية العقيمة، عالية القدرة على تحريف الحركات التاريخية، وفَرْض صِيَغ متوالية من أحوال صراعات العوامل السلبية وحدها وفيما بينها، كانت تعيق كل ظرف نهضوي من توليد جدليته الأصلية ما بين عوامله الإيجابية وعقباتها الفعلية.
أحد أشكال هذه الجدلية الموصوفة بالأصلية، والممنوعة من التمعين والصرف معاً، قد يضعنا بعد واحد وستين عاماً من مسيرة صراع الرفض والانصياع، أمام خاتمة مشؤومة لتلك المسيرة، التي كانت أشبه بمباراة أنطولوجية شاقة رهيبة بين انطلاقة النهضة العربية المعاصرة، وتحويل إسرائيل من أسطورة ما قبل تاريخية، إلى نوع من كيان دولاني، لكنه إشكالي في نظر حتى صانعيه وحراسه من بعض أهل الغرب، كما من نخب أجياله. هنالك أسئلة لم يكن أحد من مثقفي الغرب يجرؤ على طرحها أو يسمح للسانه أن يجهر بها، أضحت مسموعة بأصوات عالية في المنتديات الخاصة والعامة. وهي تدور في معظمها حول أصل مشكلات العنف القائمة والمستفحلة دائماً بين الغرب والشرق العربي والإسلامي. أليست هي هذه الدويلة العبرية التي دأب ساسة الغرب على إقناع أنفسهم وشعوبهم بكونها الدولة الضرورة التي قد تضع حداً لمشكلتهم التاريخية المزمنة مع اليهودية الآيلة إلى واحد من أهم أسباب الحرب العالمية الثانية، والمدموغة بكارثة المحرقة. لكن إنشاء الدويلة لم يُنْهِ أزمة الضمير الغربي إلا ليضعه أمام أزمة وجود أعظم وأبعد خطراً في تداعياتها المستقبلية والمصيرية، بين الغرب وكراهية العالم الإسلامي. فأوروبا اليوم مستثارة باستفزازات إسرائيل لها على كل صعيد أيديولوجي وسياسي وأخلاقي إنساني.
والأسباب معروفة وفاضحة، ولم تعد أقلام الصحافة تتورع عن نشر غسيلها الوسخ، الذي راح يقشع أكاذيب التحريمات السابقة المحيطة بحقائق الكيان العبري وممارساته. فمنذ انفجار فظائع محرقة غزة في الوسطَيْن الإعلامي والقانوني الأوروبي الغربي، وما تبعها من تشكيل أسوأ حكومة يمينية من صقور العنصرية، مقترنة بإعادة التأكيد على عنصرة إسرائيل كدولة يهودية، تحاول السياستان الأوروبية والأمريكية لفلفة خجولة لنتائج هذه الفواحش الإسرائيلية وآثارها المدمرة على أسطورة السلام مع العرب. لكن هل ثمة انفكاك نفسي ما عن ذلك التبني الأعمى المطلق، بما يشبه عقيدة سماوية، لكل ما هو إسرائيلي، في أوساط معينة من الطبقات الحاكمة ومحيطها الثقافي والإجتماعي. اليوم يمكن القول ان علائم اختلافات عميقة بدأت تسجّل انزياحاتٍ واضحةً في ثوابت هذه "العقيدة" الغربية بالحقيقة الإسرائيلية، واليهودية وربما الاقتصادية معها. هذا مع الاعتراف أن العرب لن يلمسوا سريعاً آثاراً لها جذرية. ومع ذلك ليس ثمة تنازل غربي، أوروبي أو أمريكي، عن المشروع الإسرائيلي في عمق العالم العربي. لكن اللحظة الراهنة الواقعة تحت ضغوط الأزمة المالية، والمتغيرات العميقة في موازين القوى الشرق أوسطية، بعد أن فقدت إسرائيل هيبة القوة الرادعة الأولى في المنطقة، واحتلال المقاومات الشعبية في المشرق خط الدفاع المتقدم والصامد عن الأمن القومي العربي، بديلاً عن الدول وجيوشها المشلولة في الثكنات، وبعد دخول المحيط الإسلامي (إيران وتركيا) على خطوط المحاور العربية هنا وهناك بقوة وفعالية غير مسبوقتين، بعد كل هذه التحولات يأتي كذلك عامل التغيير الأمريكي برهان أفضلياته التي يعد بها شعبه والرأي العام الدولي. وساحة هذا الرهان والامتحان هي القارة العربية الإسلامية؛ فمن سوء حظ هذا المشروع الإسرائيلي أنه، وهو المحاصر بكل هذه المتغيرات الدولية والإقليمية التي لن تصب كلياً كعادتها سابقاً في صالح مصيره، فإنه هو المنتكس، بإرادته الحولاء إلى أظلم تكويناته العنصرية، بحيث لم يُبْقِ في يديه إلا سلاح العنف القاتل.سوف يظل حاملَ لواء العدوان والحروب في الوقت الذي يبحث أسياده الغربيون عن بقايا أمنهم الاقتصادي. مثلما تهرول الدول العربية وراء ما يسمونه بمبادرة السلام. ذلك هو المتغير الوحيد الذي يريد النظام العربي أن يختم به مباراته البائسة اليائسة مع الكيان الصهيوني، ومع ذلك فإن العنصرية العبرية المتصاعدة لن تمنحه شرف هذه الخاتمة، بالأقل من شروطها، إن لم تكن بدون شرط. أليست المبادرة هذه كناية لفظوية عن الاستسلام بدون قيد أو شرط.
لعل الغرب وحده، وكطرف ثالث بين العرب واليهود، هو المصمم هذه المرة، على تنفيذ هذه المبادرة، لأنه يرى في سِلْمها الموعود، الطريقةَ الأخيرة في إنقاذ إسرائيل من مصيرها العنصري الذي ستودي بها في محصلة الصراع، بينما سيكون فرض السلام على العرب بمثابة كتابة حياة جديدة للمشروع الإسرائيلي، سوف يتكفل النظام العربي بأمنه وسلامته وازدهاره، على حساب نهضة عربية موؤودة مغدورة بآبائها وأبنائها العاقين دون العالمين.. أولاً.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق