الثلاثاء، 17 نوفمبر 2009

العراق الامريكي وفوضى المالكي الخلاقة



د. مثنى عبدالله
باحث سياسي عراقي


لازالت قوانين التاريخ وعلم السياسة عاملا حاسما في الحكم على الانظمة السياسية وتقرير مدى شرعيتها، وبهما توزن أفعال الحكومات لاأقوالها لبيان مدى الاقتراب أو الابتعاد من قانون التطور الاجتماعي، الذي لابد أن يكون فيه دور الانسان فاعلا وجوهريا، ضمن منطق أن لاعودة للماضي، ولاأرتداد الى عصور خلت. لكن التطور الاجتماعي رافقه أيضا تطورا في الاساليب والوسائل التي أعتمدتها القوى الاستعمارية، لاستمرار سيطرتها وتسلطها على الغير من خلال أنظمة مصطنعه فاقدة الصلاحية، يجري التطبيل لها ونفخ روح الشرعية فيها عبثا بهدف ضمان مصالح أكبر وبخسائر أقل، غير أن الصور المقززة والافعال المشينة التي تنتجها هذه الانظمة ضد الشعوب وهي تمارس سلطاتها المزورة، أنما تفشي حجم التزوير الذي جرى لصنع تارخ جديد لها، حتى عادت كالبضاعة الفاسدة رائحتها تفضح نفاد صلاحيتها وتكبل بالعار مصدريها والمروجين لها. واذا كان التاريخ يحدثنا عن نماذج كثيرة من هذه الفصيلة فان العبقرية الامريكية في الالفية الثالثة، أنتجت لنا نموذجا يكاد يكون فريدا في مواصفاته ليتربع على عرش العراق، هذا البلد الحضاري الزاخر بالامكانات، فالاحتكام الى منطق العقل ووضع جميع الذي جرى في العراق منذ التاسع من نيسان العام 2003 وحتى اليوم على محكه، أنما يكشف لنا عن المسببات المنطقية التي أدت اليه، وهي أولا أن العراق دولة محتلة حتى هذه الساعة برغم ماسمي (الانتخابات) التي تحكم المحتل بنسبها والمشاركين فيها وضروفها غير القانونية، وبرغم تعدد (أيام السيادة) التي تم الاحتفال بها، وثانيا أن السياسة التي تمارسها الادارة العراقية الحالية، ماهي سوى صدى لصوت المحتل الذي مازال مدويا وحاسما في كل الشؤون العراقية، وأنعدام الارادة الوطنية الضامنة لمصالح الشعب والوطن، وبالتالي فأن الاحداث الدامية التي أصطبغت بها نهارات وليالي العراق، والتي مازال منها المزيد كما يصرح بذلك قادة الاحتلال الامريكي يوميا، وعلى رأسهم الرئيس الامريكي أوباما الذي أكد بان (أمام العراق أياما صعبة وشاقة)، أنما يكشف بوضوح تام بان الازمة ليست مشكلة أمنية، وهم الذين جربوا كل الخطط الامنية، وأوفدوا مئات الاف من عناصر الامن والشرطة والمخابرات الى أعرق الاكاديميات الامنية العالمية لاعدادهم، وقسموا مدن العراق الى مستعمرات تحيط بها الاسيجة الكونكريتية، وقتلوا وأعتقلوا بشبهة وبدون شبهة الكثير، ودسوا مخبريهم وأعوانهم في كل زوايا المجتمع، بل هي أبعد من ذلك بكثير، أنه صراع تاريخي على أرض دولة محتلة بين أرادتين أحداهما المحتل وأعوانه الذين يسعون لتطبيق منهجهم الشامل المتمثل بالعملية السياسية المعروفة الاهداف والنوايا، والاخرى كل القوى الحية في المجتمع الرافضة لهذا المشروع والممثلين بالتيارات الوطنية والقومية واليسارية والاسلامية والنخب الاجتماعية والاكاديمية وكل من أمن بحقه في الحياة الحرة الكريمة في عراق حر مستقل.
أن دخول العامل الدولي الممثل بالاحتلال، الى الساحة العراقية بما يمثله من أطماع ستراتيجية وفتحه الباب أمام الكثير من القوى الحليفة له، للعبث بالامن الوطني العراقي كل حسب أجندته الخاصة، وتغلغل دول أقليمية أخرى بحكم أرتباط الكثير من رموز ماكانت تسمى (المعارضة) بتلك الدول والتصارع بينها بسبب تقاطع المصالح، ومحاولة المحتل الانتقام من المقاومة بالصاق تهم العنف التي يمارسها ضدها، لافقادها حاضنتها الشعبية، ودفعه من أمتطاهم عند الغزو لتسنم المناصب السياسية بغية نشر الفساد المالي والاداري والاخلاقي، كلها عوامل فاعلة اليوم في المشهد العراقي، وتفاعلاتها الغير طبيعية سوف تستمر بتحويل المعادن النفيسة الى معادن رخيصه، ولو الى بعد حين، وسيبقى الدم العراقي يسيل كل يوم على أرض الوطن.
واذا كان جهابذة السياسة الامريكية وواضعي ستراتيجياتها قد ضمنوا مصالحهم الاستعمارية في العراق بأنفلاونزا العصر، نظرية (الفوضى الخلاقة) التي جعلت الماسي العراقية باعداد مليونية من أيتام وأرامل ومعاقين ومرضى وشهداء ومهجرين وجياع ومعتقلين ومفقودين، وأعادة البلاد الى عصر ماقبل الثورة الصناعية، وجعله يحتل بجدارة المراكز الاولى في كل الازمات التي تعاني منها المجتمعات في العالم حسب الاحصاءات الرسمية الدولية، فان المالكي هو الاخر أراد أن تكون له فوضى خلاقة تحسب له، ويضمن من خلالها مصلحته الستراتيجية بأعادة توليه منصب رئاسة الوزراء، حتى لو كان ذلك على حساب الهوية الوطنية، ومعاناة المواطن وحقه في العيش بكرامة، ففي ظل المأساة الانسانية، وأفتقار البلد الى أبسط الخدمات الاساسية، التي يفترض في أية حكومة تملك الحد الادنى من الشعور بالمسؤولية الاسراع في أنجازها، نجده توجه وبكل أمكانيات المسؤول الاول في السلطة التنفيذية، للسيطرة على أدوات القوة في الدولة (الجيش، الامن، المخابرات، الشرطة) محاولا أنتزاعها لتجيير فعلها لنفسه، وعندما فشل في تحقيق جزء من ذلك بسبب عدم موافقة الامريكان، ذهب لبناء أجهزة رديفة تؤدي نفس وظائف تلك، لكنها ترتبط به مباشرة لضمان ولائها له، وها هو اليوم يستخدمها للقيام باعتقالات بالجملة، دون أن يعلم أحد ماهي تهم المعتقلين أو أماكن أعتقالهم، مما نبه القوى الاخرى المشاركة في السلطة على بناء قوى ذاتية لها من خلال تعزيز وجود مليشياتها في الجيش والشرطة. كما أن حملاته العسكرية التي روج لها على أنها ضد المليشيات، ثبت أنها قد أسست لميليشيات أخرى هي مجالس الاسناد التي أدت (الى أن يكون شيخ العشيرة رجلا حزبيا يتخذ من أبناء عشيرته كادرا مسلحا لتنفيذ أوامر صادرة من جهة حزبية تحكم البلاد، وأن شيوخ العشائر يتقاضون رواتب ويتم التعامل معهم أحيانا على أنهم مصادر معلومات) حسبما أكده أمين عام عشائر الجنوب، مما يلقي ضلالا من الشك على تبجحه المتكرر بالمسلك الديمقراطي الذي يدعي تبنيه، حيث لاتوافق بين الديمقراطية والبنى الاجتماعية القديمة، لان النظام الديمقراطي نظام حضاري متمدن. كما أن دعواته لتعديل الدستور ورفض المحاصصة وقيام مصالحة وطنية قد ذهبت جميعها أدراج الرياح، بعد أن تبين بأنها تصب في نفس المسلك الانتهازي الذي تعامل به مع القضايا الاخرى، والتي كان يبغي منها تشكيل قوى دافعه له يضمن من خلالها الاستمرار في السلطة، وتوسيع قواعد حزبه الصغير.
أن فوضى المالكي نجدها خلاقة اليوم في سياسته الخارجية، التي تتحول فيها العلاقات مع الدول الشقيقة من تعاون ستراتيجي الى عداء ستراتيجي خلال يومين فقط، ولايمكن حل أشكالاته الا بالتدويل كما حصل مع سوريا، والهرولة خلف الدول الاخرى والتوسل بها كي تفتح سفارت لها في بغداد، ظنا منه بان هذا الفعل يزيد من شرعية نظامه، بينما يصبح الدبلوماسيين أسرى في المنطقة الخضراء، وبذلك يتعطل الهدف الاساس من وجودهم الفاعل في تنمية العلاقات، والجولات المكوكية على الدول الاوربية وحضور مؤتمرات الاستثمار التي لم يلمس المواطن لغاية الان فعلها الموعود، وعجزه الواضح في أجبار الدول المجاورة على الرضوخ لمطالب العراق بما يخص حقه في المياه، وحقول النفط المشتركه، والحدود والاسرى والمفقودين، التي تضمنها المعاهدات والمواثيق الدولية
أما على الصعيد الداخلي فلا زالت فوضاه خلاقة في ترعرع الفساد المالي والاداري، بسبب معارضته أستجواب المفسدين ومحاسبتهم، وأستمرار النكوص عن الوعود التي أطلقها بالنهوض بالخدمات الاجتماعية ورفع المستوى المعيشي للمواطن، والقضاء على البطالة، وأعادة المهجرين الى منازلهم وتعويضهم عن الاضرار التي لحقت بهم.
أن المسؤولية الملقاة على عاتق من يتولى خدمة عامة، تتطلب أن تكون حركته ضامنه للتماسك الاجتماعي، وفاسحة المجال لكل القوى الخلاقة القادرة على البناء الفوقي للمؤسسات الشرعية، كي نضمن مجتمعا قويا تتحق فيه العدالة الاجتماعية، وأن المجتمع العراقي اليوم لم يعد فيه أي فسحة أمل لكل الذين ساهموا في تقسيمه وتشتيت قواه وحاولوا صنع بطولات فارغه، لم تسمن من جوع ولم تشفي من مرض.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق