الثلاثاء، 17 نوفمبر 2009

مع عشاق النهر الخالد


كاظم فنجان الحمامي
في هذه الأيام الخدّاعات التي ينعم فيها تجار الخردة وعربنجية السكراب بالثراء الفاحش, وفي الزمن الذي أثرى فيه أمراء السيارات الحوضية الذين تفننوا بنهب ثرواتنا النفطية وتهريبها في حلكة الليالي البهيمة, وفي المراوغات السياسية التي تسللت فيها السحالي والأفاعي والثعابين والتماسيح إلى غابات الفساد الإداري, وفي الوقت الذي فقدنا فيه ذاكرتنا وقطعنا صلتنا بماضينا العريق. اعتاد بعض رجال البصرة الأفذاذ, ورواد نهضتها التنموية القديمة الاجتماع في ظلال كازينو (البدر) على الخير والمحبة, يجمعهم شط العرب في ضيافته صباح كل جمعة منذ ستينيات القرن الماضي, يأتون إلى هنا مشيا على الأقدام, أو بسيارات الأجرة من أماكن متباعدة. يحملون معهم هموم البصرة وأوجاعها. ويبدأ الفصل الأول من النقاش الأسبوعي المتناغم مع أصوات السفن والزوارق العابرة. في أجواء بريئة تفيض بالوفاء للمدينة المينائية الزاهرة دوما بأهلها.
تتمحور نقاشاتهم منذ القرن الماضي حول موضوع واحد لا يتغير, ألا وهو كيفية النهوض بالبصرة وتطويرها وإحياء جداولها وشناشيلها. ومازالوا يتناولون المواضيع نفسها من دون أن يسمعهم مسئول أو يلتفت إليهم احد. وهم في الحقيقة ليسوا بحاجة إلى من يسمعهم ويلبي مطالبهم, فكل ما في الأمر أنهم يمارسون هوايتهم المفضلة في التحدث إلى شط العرب نفسه, والتحاور معه بأحاديث مشفرة لا تفقهها إلا النوارس المهاجرة والسفن العائدة من الجزر البعيدة. التقيتهم في الأسبوع الماضي واستمتعت كثيرا في الجلوس معهم, وكنت فرحا بلقائهم وبارتباطهم الروحي بهذا النهر الخالد, فالحديث معهم أفضل آلاف المرات من التحدث عن الشفافية والضبابية, والقوائم المغلقة والمفتوحة, ومسلسل التراجعات نحو المربع الأول, وما إلى ذلك من تصريحات كاذبة وخطب زائفة, وما تحمله الفضائيات اللعينة من بيانات استشهاد أطفال ونساء العراق بالعبوات اللاصقة والعجلات المفخخة.

اخترت الجلوس هذه المرة على المائدة التي كانت تجمع كل من: فاضل حمزة عباس, وهو من مدراء ميناء المعقل القدامى, ومهدي سليم البدر, وهو من وجهاء البصرة ومؤسس كازينو البدر, وكريم علاوي , وهو من أقدم لاعبي كرة القدم في العراق خلال عقد الخمسينيات. وفوزي كامل اسكندر وهو من رجال الأعمال الحرة, وعبد الرزاق جمعة, رياضي سابق, وسلطان مله علي وهو سياسي متحرر من قيود الاستبداد, وفوزي التتنجي وهو من تجار البصرة ووجهائها المعروفين.
فوجدتها فرصة للتحدث مع الأستاذ فاضل (أبو رافد), عن نشاطات الموانئ العراقية في عصرها الذهبي, حينما ارتقت سلم المجد, وتفوقت على الموانئ العالمية, وكم كانت دهشتي كبيرة عندما علمت منه إن جميع المرافئ في الفاو وأم قصر والمراسي الوسطية كانت في الستينات تابعة إداريا لميناء المعقل, ويطلق عليه وقتذاك (إدارة ميناء البصرة).
حدثني الأستاذ فاضل عن زيارة رئيس الوزراء التركي (عدنان مندرس) لميناء أم قصر عام 1967, وعن رغبته الجامحة لمد جسور برية تربط تركيا بالخليج العربي عن طريق ميناء أم قصر, الذي كان أنموذجا فريدا للموانئ المتطورة في ذلك الزمان. بيد إن الخطط الاقتصادية تتغير بتغير المصالح والظروف, وتعتمد في تقلباتها على من يحرز الفوز أولا في ماراثون التنافس المينائي المفتوح, وهكذا سارت تطبيقات هذه الفكرة في المسارات المعاكسة, واتجهت الجسور والأنابيب البرية من الأراضي العراقية إلى المياه التركية, وخير مثال على ذلك هو التحول الكبير في تسيير خطوط الناقلات المحملة بالنفط العراقي الخام عبر ميناء جيهان التركي. وتوريد البضائع وتصديرها عبر الموانئ البديلة في البلدان المجاورة للعراق في السنوات الماضية.
غير إن عشاق شط العرب, ورواد كازينو البدر مازالوا يصرون على ترشيح شط العرب للفوز في حلبة التنافس المينائي في الجولات المقبلة إن شاء الله, فالنهر الخالد لا يعرف التراجعات ولا يعرف الضمور. وسيبقى هو الممر الملاحي العراقي الوطني المتدفق بالخير والعطاء في كل العصور.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق