الخميس، 22 أكتوبر 2009

المعارضة الديمقراطية قلقة من تواصل الانغلاق السياسي .. والانتظارات محدودة

تعتبر الانتخابات في البلاد الديمقراطية حدثا بالغ الأهمية، تتغير بمقتضاه الخارطة السياسية للقوى الفاعلة في البلاد. تخرج أحزاب من الحكم وتدخله أخرى. وتعمل القوة الخاسرة على مراجعة مسارها وخياراتها، والاستعداد للانتخابات التالية، عبر إقناع الناخب بأنها الأقدر على تحقيق مصالحه. أما في تونس فالانتخابات تكاد تكون مناسبة عامة، الهدف الوحيد منها هو إعلان تزكية الوضع القائم، ومبايعة الرئيس لدورة جديدة، وتوزيع الفتات على قوى الديكور الديمقراطي المرضي عنها. فلا تغيير يعقب الانتخابات، ولا مفاجئات تتلوها، ولا انتظارات تسبقها. ما هو قائم قبلها يستمر بعدها.

مراسل أقلام أون لاين في تونس الزميل عادل الثابتي اتصل بالقوى الديمقراطية الفاعلة وببعض الشخصيات الوطنية، وأعد الملف التالي. وعلى الرغم من بعض التطورات التي أعقبت إعداد هذا الملف، قبل نشره، فإن تلك المواقف لم تزدها التطورات سوى مصداقية وتأكيدا:

ملف أعده عادل الثابتي

لمعرفة مواقف هذه الأحزاب وبعض الناشطين السياسيين توجهت لهم "أقلام أون لاين" بالسؤال التالي: كيف تقرؤون الوضع السياسي التونسي قبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة؟ وفي أي وجهة يمكن أن يتطور؟ وذلك لمزيد تبيان مواقف هذه الأحزاب والشخصيات من الاستحقاق الانتخابي القادم، والإحاطة بالانتقادات التي تُوَجَّهُ إلى الظروف التي تجري فيها الاستعدادات لهذه الانتخابات، ولاستشراف رأيها في التطورات المحتملة للوضع السياسي في تونس بعدها.

الدكتور مصطفى بن جعفر الأمين العام للتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات:

لا شيء ينبئ بأنّ البلاد ستعيش انتخابات تنافسية تتساوى فيها حقوق الأطراف المشاركة ويتساوى فيها مجال تحرّكها

1- نحن اليوم قاب قوسين من موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية، ولكن لا شيء ينبئ بأنّ البلاد ستعيش انتخابات تنافسية، تتساوى فيها حقوق الأطراف المشاركة، ويتساوى فيها مجال تحرّكها. فالإعلام السمعي والبصري محتكر تماما من قبل حزب الحكم مع بعض الومضات التي تُهدى من حين لآخر لأصوات ووجوه موالية، وكذلك الأمر بالنسبة للفضاءات العامّة. فالطرف الماسك بالسلطة يتصرف في الشأن العام وكأنّه يريد الانفراد باللّعبة، حتى تتواصل في اتجاه واحد، كما هو الأمر خلال السنوات الخمس الفاصلة بين موعدين انتخابيين. لقد كنّا نأمل الدخول في الانتخابات والبلاد في حالة انفراج، وقد بذل التكتّل في هذا الاتجاه أقصى جهده عندما مدّ يده بمناسبة عقد مؤتمره الأوّل في شهر مايو/أيار للحوار مع حزب التجمع، أو عندما ساهم في إصدار بيان مشترك لأحزاب المعارضة الجدّية في شهر جويلية/يوليو يحدّد مطالبها في الممكن حتى تكون الانتخابات المقبلة ذات مصداقية، وحتى تشكّل نقلة نوعيّة في اتجاه الإصلاح الديمقراطي، بعد أن حلمنا بالعفو التشريعي العام، وبإطلاق مساجين الحوض المنجمي، بعد أن طالبنا بمراجعة القانون الانتخابي، وبفتح باب الترشح الحرّ للانتخابات الرئاسيّة، راجعنا حساباتنا وجددنا مطالبنا إلى الممكن وهو بعث هيئة مستقلة تشرف على الانتخابات، تُحدَّد ملامحها إثر حوار يشرف عليه الوزير الأوّل أو شخصية يُعيّنها رئيس الدولة.. ولكنّ كلّ هذه الطلبات لم تحظ بأي اعتناء... ولم يأت مرصد 2009 المسقط بأيّ جديد يُذْكر سواء في تجسيم استقلالية أعضائه، أو في مجال تدّخله وتأثيره على مجريات العملية الانتخابية، التي بقيت كما كانت تحت سيطرة وزارة الداخلية، وقد أكدت التجارب السابقة انحيازها الكلّي إلى حزب الحكم ومرشحيه.

وخلال المدّة الأخيرة لاحظنا من جانب السلطة مزيدا من التشنج والتضييق على الأصوات الحرة، وآخر مثال على ذلك ما حصل من انقلاب ضدّ القيادة الشرعيّة للنقابة الوطنية للصحافيين. وعلى الرغم من كلّ ما ذكرت فقد قرر التكتّل المشاركة، أوّلا لأنّه حقنا وكذلك لكي لا نترك لحزب الحكم الانفراد باللعبة ونؤكد للمواطن أنّ هنالك بديلا لسياسة الحكومة قادرا على تحقيق التنمية وتجاوز عقبات البطالة والتفاوت الخطير بين الجهات إضافة إلى تكريس الحكم الرشيد واحترام الحريات العامة والفردية بما يجسم مجتمع المواطنة.

2- لا أريد أن أبالغ في التشاؤم لأنّه يصبّ في خانة من يريدون انتخابات "بالسْكاتْ " خالية من كلّ صوت مخالف، تدفع إلى المزيد من الإحباط والاستقالة في الوقت الذي نحن مطالبون فيه بشحذ الهمم ودعوة المواطن إلى ممارسة حقّه في المشاركة في الشأن العام، فلا تغيير دون مشاركة المواطن، ولا تغيير ديمقراطي سلمي خارج صناديق الاقتراع، وإذا كان هنالك من يريد التلاعب بها فإرادة المواطن هي القادرة وحدها على ثنيه عن ذلك وفرض احترام القانون.

ونحن مقتنعون أنّ البلاد أمام امتحان هام وهي في مفترق الطرق، إمّا أن تأخذ المنعرج الأسلم نحو الانفتاح والإصلاح، وفي هذا الاتجاه يمكن أن تكون الانتخابات المقبلة -عبر تجنب التلكؤ في قبول المترشحين من المعارضة وعبر ظروف الحملة ونتائج الاقتراع- محطّة تبعث الأمل في قدرة التونسيين – في الحكم والمعارضة – على الإعداد للمرحلة المقبلة والتي ستكون في مناخ الأزمة الاقتصادية العالمية مليئة بالتحدّيات والمخاطر وإمّا – لا قدّر الله – أن يتواصل الانغلاق فتكون الانتخابات فرصة مهدورة أخرى، ولعلّها آخر فرصة للتدارك...

ما يترك لديّ نسبة من التفاؤل هو اقتناعي بأنّ في صلب النظام قوى وطنيّة تحبّ الخير لتونس وتسعى إلى وضعها على سكّة البلدان الديمقراطية المتقدّمة حتى تكون منارة يهتدى بها دعاة الحريّة في عالمنا العربي الإسلامي الذي يشكو اليوم من تخلّف مقيت سببه الأصلي تغييب المواطنة وفرض الطاعة.

أحمد إبراهيم مرشح "المبادرة الوطنية" للانتخابات الرئاسية:

خيار المستقبل الحقيقي يبدأ بانتخابات تكون اسما على مسمى!

إن الوضع في تونس اليوم يبعث على عميق الانشغال لما يطغى عليه من انغلاق متزايد، ومن جو "إجماعوي" متعاظم، يتجاهل تعدد الاتجاهات والحساسيات في المجتمع، ومن اكتساح متزايد للفضاءات العمومية، واحتكار شبه مطلق لوسائل الإعلام الوطنية من قبل حملة انتخابية أحادية الجانب لصالح مرشح وحيد، في الوقت الذي تتعرض فيه أحزاب المعارضة الديمقراطية المتمسكة باستقلالية قرارها عن السلطة، ليس فقط إلى الإقصاء التام من الإذاعة والتلفزة بل إلى شتى أنواع التضييقات ومحاولات التكميم والتكبيل لمنعها من القيام بنشاطها ومن الاتصال بالمواطنين والتعريف ببرامجها. هذا إضافة إلى التعتيم والحصار الإعلامي المضروب علي شخصيا كمرشح التجديد والمبادرة الوطنية إلى الانتخابات الرئاسية، ورفض وسائل الإعلام الوطنية تغطية نشاطاتي ونشاطات المبادرة والحركة لا لشيء إلا لكوني عازم على أخذ الترشح مأخذ الجد، وعلى منافسة مرشح الحزب الحاكم من منطلق المعارضة الواضحة التي تطرح بديلا شاملا للتوجهات الرسمية في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

إن وضع الانغلاق هذا وما يتصف به من طغيان عقلية الحزب الواحد وتشنج إزاء الراي المخالف وتواصل لحالة التوتر لا يمكن أن يتواصل دون عواقب وخيمة على سير الانتخابات ومصداقيتها وعلى مصلحة البلاد حاضرا ومستقبلا.

لذلك فإننا أمام إمكانيتين:

1- إما أن يقع تدارك هذا الوضع بالسرعة اللازمة، فتتخذ إجراءات لتحقيق الانفراج في المناخ العام بإطلاق سراح مساجين الحوض المنجمي والإقلاع عن احتكار وسائل الإعلام ورفع التضييقات عن نشاطات الأحزاب والكف عن محاولات تدجين منظمات المجتمع المدني والاستجابة لمطالب المعارضة بتوفير الظروف الدنيا للمنافسة الانتخابية وشفافية عملية الاقتراع، وفي هذا مصلحة جميع الأطراف سلطة ومعارضة علاوة على أنه مكسب للبلاد وعنصر أساسي من عناصر استقرارها واستجابة إلى طموح شعبها في انتخابات لا تصادر حقه في الاختيار الحر بل تكون مدخلا للإصلاح السياسي والانتقال إلى الديمقراطية فعلا لا قولا.

2- وإما أن يتمادى الانغلاق ورفض التعدد وسد السبل أمام إمكانيات التنافس باسم "خيار أوحد" مزعوم والإعداد لإعادة إنتاج التجارب الانتخابية السابقة الفاقدة لمقومات المصداقية، وفي هذا منزلق خطير نحو المجهول بما قد يأتي به هذا المجهول من أزمات وهزات بلادنا في غنى عنها.

وفيما يخصنا سنواصل نضالنا من أجل أن نجنب بلادنا وشعبنا هذا السيناريو الثاني وعواقبه السلبية، لأن "الخيار الأوحد" الذي يراد فرضه بعملية هي أقرب إلى المبايعة منها إلى انتخابات تكون إسما على مسمى، هذا "الخيار" هو في الواقع خيار الماضي. أما خيار المستقبل الحقيقي فلا يتم إلا عبر انتخابات حرة ونزيهة. هذا ما نأمله لبلادنا وشعبنا، وهذا ما سأبذل قصارى جهدي لتكريسه على أرض الواقع بوصفي مترشحا إلى رئاسة الجمهورية.

مية الجريبي، الأمينة العامة للحزب الديمقراطي التقدمي

الانتخابات التشريعية تدور في نفس ظروف الانتخابات الرئاسية وفي إطار ذات الانغلاق ورفض الآخر وأعراس المبايعة

تسير تونس نحو الانتخابات في ظل وضع ومؤشرات تنزع عنها صفة الانتخابات، وتجعلها مجرد مبايعة لا دخل للشعب فيها. فالانتخابات الرئاسية، ستتم وفق التنقيح الذي أدخل على الدستور في 25 جويلية 2008. والذي سن في ردة فعل مباشرة على قرار الحزب الديمقراطي التقدمي بترشيح الأخ أحمد نجيب الشابي، هذه الشخصية الوطنية التي يمكن أن يُتفق معها أو ُيختلف معها، لكن لا يجادل أحد في مساهمتها وإضافاتها في الحياة الوطنية منذ عقود، ولا يمكن بأي حال إنكار حقها في الاحتكام إلى الشعب.

لقد كان الهدف من مبادرة الحزب الديمقراطي التقدمي، وهو الذي يضع التداول السلمي على الحكم في مركز المهام المطروحة اليوم على التونسيين، خوض معركة سياسية من أجل الإصلاحات السياسية والقانونية التي يفترضها احترام حق الشعب التونسي في انتخابات حرة ونزيهة، وتعبئة الطاقات من أجل ذلك، وكسر الطوق الإعلامي حول الأوضاع التي تعيشها تونس، والإسهام في ديناميكية تصاعدية تراكمية تؤمن التواصل مع الرأي العام وتفتح باب الأمل أمام التونسيين بأن تونس أفضل ممكنة، بطاقات أبنائها وبناتها وبعزيمة نخبها.

كان هذا عنوان تمشينا حين أعلنا، منذ سنتين تقريبا، مشاركتنا في هذه الانتخابات، بشقيها الرئاسي والتشريعي، وخضنا معركة سياسية من أجل حق التونسيين في الاختيار دون ضغط أو إكراه، ورفضنا القانون الدستوري الجائر، الذي تعاطى مع التونسيين على أنهم رعايا، ومع المعارضة على أنها تابعة تحركها المنن التي تسدى إليها.

تمسكنا بحقنا في اختيار مرشحنا وخضنا حملة من أجل إخراج مهمة الإشراف على العملية الانتخابية من يد وزارة الداخلية، التي ثبت تورطها في الزيف، ومن أجل توفير شروط المشاركة الحرة، وأولها حرية الإعلام، وحق الاجتماع، والعفو العام، وغلق ملف الحوض المنجمي، عنوان أزمة السياسات التنموية، وعنوان غياب الحريات وتطويع القضاء لمواجهة الخصوم السياسيين.

لم تأبه الحكومة بمطالب المعارضة ولا بتطلع التونسيين إلى حياة سياسية متطورة عبر الانتخابات الحرة والنزيهة، ولم تفتح المجال إلا لحملات المناشدة طيلة أشهر ثم لحملة انتخابية سابقة لأوانها سخرت لها كل وسائل الدولة والإدارة العمومية. وحتى يكتمل المشهد، شكلت مرصدا "وطنيا" لا يعدو أن يكون سوى مرصد خاص بمرشح التجمع الدستوري الديمقراطي وعنصرا من عناصر الحملة الرسمية لتلميع صورة الحكم في الداخل والخارج.

لم يذعن الحزب الديمقراطي التقدمي للإملاءات وواصل حملته من أجل الدفاع عن حق المواطنة ثم أعلن بمناسبة فتح باب الترشح للرئاسية وفي ندوة صحفية تداولتها أهم الفضائيات ووكالات الأنباء انسحابه من هذه المهزلة التي تعيد نظام الرئاسة مدى الحياة بصيغة جديدة.

ويدرك الجميع أن هذا الانسحاب من الرئاسية ليس انسحابا من المعركة بل هو في صلب الحملة السياسية التي يقودها الحزب من أجل دمقرطة الحياة السياسية ومن أجل تطوير العمل السياسي في تونس، والتي يدعو إلى مواصلتها من خلال كل المحطات النضالية من أجل أن تعيش تونس يوما منافسة انتخايبة حقيقة يكون للشعب كلمته فيها. (انسحب الحزب لاحقا حتى من الانتخابات البرلمانية بعد إسقاط معظم قوائمه الانتخابية).

علي العريض، الناطق الرسمي السابق لحركة النهضة

البلاد في حاجة إلى إجراءات لتنقية المناخ العام .. والمستقبل لا يمكن التكهن به!

لا تختلف جلّ الأطراف السياسيّة والحقوقية في تشخيصها للوضع السياسي، فالبلاد لم تتقدّم في مجال الحريات الفردية والعامّة، حرية التعبير وحرية التنظم والصحافة وتشكيل الأحزاب والجمعيات والنقد والمنافسة وحياد الإدارة، ولاسيما الأمنية، منها واستقلال القضاء عن دوائر التأثير، وتكافؤ الفرص في حقوق الترشح وحقوق الانتخاب. وبصفة عامّة لم نتقدّم في تكريس حقوق المواطن السياسية والمدنية، تلك الحقوق التي تجعله يتمتع بمواطنيّته كاملة، وتُنمّي فيه الثقة في الحاضر والمستقبل، والانتماء إلى المجموعة، والتضحية من أجلها. ولم تخل السجون من مساجين الرأي والسياسة، والدكتور الصادق شورو مثال صارخ على ذلك، وضحايا قانون مكافحة الإرهاب اللادستوري من الشباب المتدين، ومساجين الانتفاضة الاجتماعية للحوض المنجمي بقفصة.

ولا تتمتع جمعيات كثيرة ناشطة في مجال حقوق الإنسان بحقها في التأشيرة وفي العمل بحريّة واستقلالية، وتتعرض للمضايقات، وكذا الشأن بالنسبة للأحزاب مثل حركة النهضة وغيرها من الأطراف، وعدة أحزاب وجمعيات قانونية تخضع لضروب من المنع والمضايقات والانقلابات على هيئاتها القانونية، بطرق معروفة خَبِرها الجميع في تاريخ بلادنا المعاصر، مثل ما حصل أخيرا للهيئة الشرعية لنقابة الصحفيين، وهو انقلاب يستهدف بالدرجة الأولى عرقلة حريّة الإعلام، التي كانت النقابة ترفع لواءها.

ولأن المناخ العام يتّسم بانغلاق كبير، فإنّه لا وجود لتظاهرات سياسيّة ذات حجم وأثر، رغم قرب الانتخابات العامّة، والسبب هو غياب الرهان في هذه الانتخابات. فالمواطن يعرف أنّ النتائج مقرّرة وواضحة، ويعرف أن التقرب من السلطة هو المعيار، الذي تتحدّد في ضوئه المكافآت، ولذلك فالراجح والسائد هو اللامبالاة. وهو مناخ يعمّق الانكفاء على الذات والفردانية واللاّمسؤولية تجاه الشأن العام، واليأس من جدوى النضال، ويزرع الغموض في المستقبل/ لأن الشعب الذي لا يعبّر عن آرائه وعواطفه بحريّة لا يمكن التكهن بردود أفعاله، وبما يعتمل في شبابه من اتجاهات في التفكير والتصرف.

كل الأطراف طالبت باتخاذ إجراءات لتنقية المناخ العام، وإحداث انفراج حقيقي، وتوفير شروط انتخابات حرّة ونزيهة، ولكن مطالبتها ونضالها لم يفضيا إلى نتيجة تذكر، لأن السلطة رفضت الاستجابة والحوار والتعاون. لا شك أن بعض المتنفذين يراهنون على تكريس اليأس من جدوى النضال، وعلى استمرار الأوضاع على ما هي عليه، وهذا خطأ في حق الوطن والمواطن وتفويت متكرّر للفرص.

في خصوص المستقبل فلا شيء يمكن التكهن به، فالقرار في المجال السياسي بيد السلطة وحدها، وبالتالي يمكن أن يستمرّ هذا الوضع إلى أن تحدث أحداث كبيرة سياسية أو اجتماعية قد تدفع إلى المراجعة. كما يمكن أن ينتبه أصحاب القرار إلى ضرورة الإسراع بتنقية المناخ، وإذابة عوامل الاحتقان، والبدء بالتالي في خطوات جادّة على طريق الانفراج، واستيعاب حراك المجتمع وتياراته المختلفة، بدل العمل على استئصال البعض، وإقصاء البعض، والتضييق على آخرين، وإلحاق البعض الآخر.

شيء واحد يمكن تأكيده هو أن المجتمع وتياراته وأحزابه وجمعياته وشبابه لن يتوقف في مسعاه لحلحلة هذا الوضع المنغلق، من خلال المطالبة والنضال، لأننا نريد أن يتمتع المواطن بحرية التعبير والاحتجاج، وبحق الانتماء إلى أي حزب أو تيار سياسي، ونريد للأحزاب والجمعيات أن تمارس نشاطها بكامل الحرية والاطمئنان، في إطار قوانين عادلة تحترمها، وإدارة محايدة في تعاملها مع المواطنين والأحزاب والنقابات والمثقفين. ونريد استقرارا حقيقيا، يكون نتيجة للشعور بالأمن والأمان، لأن الأمن ليس هو الأمان، فقد يتحقق الاستقرار بالإكراه وحتى بالرعب. نريد كل ما ينمّي الشعور بالانتماء الوطني، والمسؤولية، والشراكة في بناء الوطن، حاضره ومستقبله. نريد الشعور بالمساواة في المعاملة، بقطع النظر عن الرأي السياسي والموقع الاجتماعي والانتماء الحزبي. نريد الشعور بالحريّة، وأن نتخلص من الشعور بأن أجهزة الدولة تراقب أنفاسنا في كل موقع، في المصنع والشارع والكلية والجريدة والأسرة. نريد إعلاما حرّا لا سلطان عليه إلا الضمير والحقيقة والقانون العادل المنظم للمجال. ونريد قضاء مستقلا متحرّرا ومتخلّصا من كل الضغوط أو التدخلات أو التوظيفات، أيا كان مصدرها، يُعلي اطمئنان المواطن على حقوقه، وإنصافه مهما كان موقع الخصم أو انتماءه او قرابته من زيد او معارضته لعمرو.

ثمّ إن الاقتصاد على أهميته، لا سيما في ظل أزمة عالمية، ليس هو كل شيء، فهناك نصاب للاقتصاد، وآخر للحريّة والديمقراطية، وآخر للهوية والثقافة. ولا يمكن التضحية بالحريات أو بالعدالة الاجتماعية بحجّة أولوية الاقتصاد. وإن المواطن في تقديري يطمح إلى تحقيق توازن متحرّك بين الحداثة والأصالة أو الهويّة، ويطمح إلى تحقيق توازن بين التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والحريات والديمقراطية. إنه ترابط يدفع إلى المسارعة يتدارك تخلّفنا في أي منها، لا إلى تعطيل أو تأجيل واحدة لحساب الأخرى، فتكون النتيجة فقدان ما تحقق، بدل كسب ما ضاع أو تأجل.

محمد القوماني، ناشط سياسي وحقوقي:

لا ننتظر مفاجآت والمعارضة تعاني مشاكل بين مكوناتها

يبدو أن الانتخابات العامة الرئاسية والتشريعية بتونس، ستخلو من المفاجأة من حيث النتائج المتوقعة في مواجهة المعارضة للحزب الحاكم، فمرة أخرى تجري الانتخابات في ظل أوضاع سياسية، لا تختلف في جوهرها وخصائصها العامة عما كانت عليه الأمور خلال الانتخابات السابقة منذ نحو عشرين عاما. فالمشهد السياسي يكاد يكون متكررا، رغم اختلاف الأحداث وبعض الأطراف والأشخاص المؤثثين له. غير أن النتائج المتوقعة على صعيد التنافس على المواقع التي تعطي الأسبقية للحزب الحاكم ليست المحدد الوحيد لمستقبل المشهد السياسي بعد الانتخابات. فما هي أهم خصائص هذا المشهد عشية الانتخابات العامة؟ وكيف نقدر مساره بعد الانتخابات؟

مشهد سياسي جامد

لعل من أهم المميزات البنيوية للمشهد السياسي بتونس، بقاء الطابع الاحتكاري الأحادي للحياة العامة من طرف السلطة، من خلال هيمنة الحزب الواحد ثقافة وممارسة، والاختلال الفظيع والمُزمن بين الدولة والمجتمع المدني، نتيجة عوامل تاريخية مكنت الحزب الحاكم من الامتزاج بالدولة، ومكنت السلطة التنفيذية من الاستقواء على كل الأطراف. وهذا ليس مشهدا سياسيا فقط، بل واقع اقتصادي وثقافي واجتماعي وإداري في غاية التعقيد، يؤثر سلبا في قواعد اللعبة السياسية، التي تكاد تكون السلطة لاعبها الوحيد.

ومما يزيد هذا الواقع تعقيدا وسلبية الاختلال الكبير في موازين القوى بين السلطة والمعارضة. تبدو السلطة قوية ومتماسكة وناجحة، وتعمل بأريحية في مواجهة خصومها. وفي المقابل تعمل المعارضة في ظروف صعبة جدا، بسبب محاصرة السلطة لها، وتعاني من انحسار ميداني، بسبب ترهل أساليب عملها ودعايتها، وخواء خطابها، وضعف قدرتها على الاقتراح، وعجزها عن الاستقطاب وعن محورة مختلف مظاهر الاحتجاج في القطاعات والشرائح المتعددة، حول المطلب الرئيسي الجامع، الذي ترفعه وهو الإصلاح السياسي. هذا المطلب المشروع الذي لم تعبّر عنه المعارضة إلى الآن، في برنامج سياسي موحّد وفي شعارات محددة وواضحة ومعبئة، وبخطاب عصري، يستلهم روح اللحظة التاريخية ويفهمه الجميع. هذا إضافة إلى عجز المعارضة عن الاستفادة من العوامل الخارجية في دفع هذا المطلب.

ولا تعاني المعارضة من مشاكل مع السلطة فقط، ومن ضعف ذاتي، بل تعاني أيضا من مشاكل بين مكوناتها، من بينها أزمة الثقة وعدم الاعتراف المتبادل، مما يبقيها مشتتة، ويؤجل توحّدها على أرضية مشتركة، وظهورها كقوة ضاغطة على السلطة. ويكفي أن نستحضر ما يقوله في السر وأحيانا في العلن، فريق من المعارضة عن فريق آخر، بأن استمرار الوضع الحالي أفضل من أن يمكّن هذا الفريق أو ذاك من السلطة. ورغم أن هذا التمكّن محض افتراض بحسب معطيات الواقع بالطبع، فانه يعكس عدم ثقة المعارضة يبعضها، ويوجه الصراع إلى داخل هذه المعارضة أكثر مما يدفعه باتجاه السلطة، التي تتقن جيدا إدارة هذه اللعبة، وتحرك خيوطها المختلفة لتغذي الخلافات الداخلية، وتكون المستفيد الأكبر من سياسة فرق تسدّ المعروفة جدّا.

ولعل من المفيد في هذا السياق الإشارة إلى الفرز الواضح والتباعد بين المعارضة البرلمانية بصفة عامة، الموصوفة بالوفاق والولاء، والمعارضة الاحتجاجية الموصوفة بالمستقلة. فمن جهة المعارضة التي خفّضت نقدها للسلطة إلى الحد الأدنى وقبلت أن تتخلى عن استقلالية قرارها، أي عمليا إلغاء وظيفتها الرئيسية، حرصا على المشاركة والتموقع داخل مؤسسات الدولة، أدّت بالأحزاب البرلمانية إلى فقدان مصداقيتها وانحسار إشعاعها. ومن جهة ثانية، بقيت المعارضة المستقلة خارج المؤسسات تكتفي بالاحتجاج، الذي شكل عامل ضغط محدود على السلطة في موضوع انتهاكات حقوق الإنسان، دون أن يرتقي إلى مشروع للإصلاح السياسي. كما لم تلتفّ الجماهير حول مطالب هذه المعارضة ولم تعزز صفوفها، فلم تبن القوة الميدانية ولم تستطع فرض التغيير على النظام، ولم تبرز كبديل محتمل ومقنع عن السلطة القائمة. ومن ثمة صار التساؤل مشروعا عن إمكانية أن يفضي مأزق المعارضة التونسية بتمشّييها الرئيسيين إلى حلحلة الوضع السياسي، خاصة في ظل الصعوبات الجمّة التي تحول إلى حد الآن دون تبلور خط ثالث للمعارضة بين الولاء والاحتجاج، باتت الحاجة إليه أكيدة للمساهمة في التجاوز.

وفي ظل هذا الوضع تواصل السلطة تجاهلها أو تأجيلها لمتطلبات البلاد من إصلاح وتطوير للمنظومة السياسية وتستمر في نهجها الانغلاقي. فلم تقتنع النخبة الحاكمة إلى حد الآن على ما يبدو بأنّ الديمقراطية أفضل صيغة للحكم. ولم يقبل الحزب الحاكم إشراك أي طرف آخر في صناعة القرار وضبط السياسات وأبقى ذلك حصرا على نخبه.

وفي غياب الأفق السياسي، وانسداد منافذ المشاركة، وتعطيل الإصلاحات المطلوبة، وانتهاج السلطة سياسة أمنية أساسا في معالجة مختلف القضايا، يبدو التذمر الشعبي وبعض التحركات الاجتماعية المحدودة عناصر فاقدة للأثر السياسي. كما إن الكلفة الباهظة لتجارب المواجهة مع السلطة ما زالت تغذى المواقف الحذرة والعزوف عن العمل السياسي لدى عموم التونسيين.

وتجدر الملاحظة هنا أنه رغم استمرار تماسك أجهزة السلطة وتحكمها بنبض الحراك الاجتماعي والسياسي، فإن كابوس الخوف الذي خيّم على المجتمع طيلة التسعينات أخذ في التراجع، وأن سقف الخطاب السياسي المعارض ارتفع، وأن قطاعات عديدة باتت تعبر عن عدم الرضا. وأن الفريق الحاكم بدأ يفقد بريقه بعد أكثر من 20 عاما على رأس السلطة، وتوسعت دائرة التذمر من تداعيات سياساته المختلفة، مما يجعل من مطلب الإصلاح السياسي أكثر تأكدا في المرحلة القادمة.

هذه الخصائص البنيوية العامة للمشهد السياسي التونسي تعطيه طابعا من الجمود، وفي ظله ستجري الانتخابات العامة المقبلة، التي لم يبرز إلى حد الآن ما يجعلها تنافسية رغم طابعها التعددي، وما يحفّز الناخبين إلى الإقبال عليها. ولعل الظرف الزماني لتنظيمها يزيد في صعوباتها وضعف اهتمام أوسع عدد من الناخبين بها. فهي تأتي في نهاية العطلة الصيفية التي يتفرغ خلالها أغلب التونسين، بمن فيهم السياسيين، إلى الراحة والشؤون العائلية. كما دار التحضير السياسي لها، من حيث إعداد قائمات المترشحين والبيانات الانتخابية والتنسيق بين المعنيين بها، خلال الظروف الاستثنائية لشهر رمضان. وقدمت القائمات إلى الإدارة خلال أسبوع عيد الفطر وتجري الحملة الانتخابية بالتزامن مع العودة المدرسية.

سيناريوهات ما بعد الانتخابات

تدل عديد المؤشرات على توفر الظروف الملائمة للانتقال الديمقراطي في تونس: دولة قوية، غياب صراع إثني أو طائفي، نموّ اقتصادي، نخبة مثقفة ومنفتحة، أسرة نواتية تحررية، طبقة وسطى واسعة، اقتصاد ليبرالي، نسبة تمدرس عالية وكذلك التمدن.. وهي مؤشرات مسهلة لتأهيل الحياة السياسية.

المشكل في تونس يكمن كما أسلفنا في موازين القوى المختلة بين سلطة مُمسكة بكل خيوط اللعبة السياسية، وقادرة على تهميش خصومها، ومعارضة مشتّتة، وغير قادرة على الوصول إلى شرائح واسعة من المجتمع، قد ترى فيها من يمثل مصالحها. ربما تستطيع السلطة إطالة هذا الوضع إلى أن تبرز معارضة قوية تفرض التغيير، بما في ذلك من مجازفة بتعريض البلاد للمخاطر. كما تستطيع طوعيا وإراديا قلب هذه المعادلة لمصلحة البلاد، باختيار نهج الإصلاح، وهذا ما نفضله وما يجب أن نعمل عليه.

لقد جربت السلطة سياسة التخويف ومقايضة الصمت بالغذاء، وسجن المعارضين والتضييق عليهم، وتهديدهم في أملاكهم وحرياتهم، لكن تلك السياسة لئن أضعفت المعارضة فإنها لم تستطع شطبها، ولم تنجح في استئصالها. وربما آن الأوان، وقد تكون استخلاصات الانتخابات دافعا لانتهاج سياسة جديدة تقوم على الانفتاح وتوسيع فضاءات المشاركة ودعم التعددية المقررة في الدستور والضعيفة في الواقع. فهذه السياسة المطلوبة صارت استحقاقا تاريخيا تدفع باتجاهه مختلف التحولات الاجتماعية بتونس بعد ما يزيد عن نصف قرن من الاستقلال.

السيناريو الآخر المحتمل هو أن تكون نتائج انتخابات 2009 واستخلاصاتها السياسية، على غرار ما حصل في انتخابات 1999، دافعا ومنطلقا لصحوة في صفوف النخب للاحتجاج على المشهد السياسي، قد تعرف معه الأحزاب المعارضة والجمعيات المستقلة بعض الحيوية، وتمارس بعض الضغط من أجل الإصلاح السياسي، وقد يجد ذلك الضغط تعاطفا في الإعلام الخارجي ومساندة من بعض الجهات ذات الاهتمام. غير أنه من المؤكد أن أية استفاقة في المجتمع المدني، وأي ضغط يمكن أن تمارسه المعارضة من أجل الإصلاح، لن يكون لهما الأثر الايجابي والمؤثر في الواقع، إذا اقتصرا على الاحتجاج، وتحميل السلطة وحدها مسؤولية الأوضاع والمشهد السياسي الجامد والمتكرر. إذ قد تقود نتائج انتخابات 2009 إلى مراجعة جذرية لأداء المعارضة وخطابها ووضعها عامة، الذي تعود إليه في جانب الإخفاقات المتكررة وعدم مراكمة العمل للتقدم باتجاه الإصلاح وتحقيق الأهداف المعلنة.

فعلى المعارضة أن تراجع تعليل ضعفها بحالة القمع، وأن تدرك أن الخوف وحده لا يفسر حالة عدم الإقبال على الانخراط في الأحزاب والجمعيات، والاهتمام بالشأن العام، لدى النخب خاصة، والجمهور الواسع عامة. ولعل استقطاب السلفية الجهادية لمئات الشبان، كما يظهر من خلال الإيقافات والمحاكمات، أكبر تحد للمعارضة الديمقراطية على هذا الصعيد. إن الشعور بالإحباط، وعدم جدوى صيغ العمل المقترحة للتغيير، وأزمة الثقة بالمعارضة نفسها وبقدرتها ومصداقيتها، عوامل لا تقل أهمية عن الخوف، في تعليل عدم الإقبال وانحسار المد الشعبي للمعارضة.

وإن إعادة تأهيل المعارضة لنفسها، وإصلاح أخطائها، وتجديد خطابها وأساليب عملها، وتكريس الديمقراطية والعمل المؤسساتي داخلها، وتحسين صورتها، وبرهنتها على مسكها الجيد للملفات الكبرى، وقدرتها على التحليل والاقتراح، وتوظيفها الأمثل لإطاراتها وطاقاتها، وتجاوزها الحضور المناسباتي إلي الفعل الدؤوب، والتوجه بواقعية نحو الممكن، حيث تتوفر فرص للإصلاح، لا حيث إغراءات الفرضيات القصوى، شروط لا بد منها لانتقال المعارضة من حالة الاحتجاج إلى الظهور كقوة تغيير، ونقلة العمل السياسي من دائرة الضغط النخبوي المحدود إلى الفعل الجماهيري المؤثر، وجسر عبور إلى وضع سياسي أفضل. وبمختصر العبارة نقول إن حمل السلطة على الإصلاح يمر عبر مباشرة المعارضة لإصلاح ذاتي.

الإصلاح السياسي يبقى على رأس الأجندة الوطنية، دون التهوين من بقية التحديات، والتقدم على طريق الإصلاح رهين إرادة سياسية من السلطة والمعارضة في آن، ويمكن أن تكون البداية بإنهاء حالة التنافي والقطيعة بين السلطة وبعض أطراف المعارضة، وبتطوير صيغ التخاطب بين جميع مكونات المشهد السياسي، وخفض درجة التشنج، وبناء الثقة، والبحث عن المشتركات للبناء عليها، فإذا تم ذلك يمكن مباشرة الحديث في المقترحات والخطة الوطنية المُؤمنة لإنتاج منظومة مشاركة سياسية جديدة، تسع جميع الفرقاء، وتكرس التعددية والتنافس، وتعمل بجاذبية الديمقراطية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق