السبت، 24 أكتوبر 2009

الجامعة المستنصرية.. من سعة الآفاق .. إلى الإغلاق.

عبد الله العنزي ..... مركز الأمة للدراسات والتطوير

تُعَدُّ الجامعة المستنصرية ثاني أهمِ وأكبرِ صرح علمي ومعرفي في بلاد الرافدين، منذ تأسيسها عام 1963م وحتى دخول القوات المحتلة بغداد عام 2003م، ويحاكي اسمها مَعلماً عريقاً من معالم الحضارة الإسلامية، وهو: المدرسة المستنصرية، الواقعة على ضفاف دجلة في الجانب الشرقي من بغداد، والتي أمر بتشييدها الخليفة العباسي المستنصر بالله أبو جعفر منصور بن محمد سنة 625هـ، وانتهى من بنائها سنة 631هـ‍. الموافق 1233 للميلاد، وسُميت بالمستنصرية نسبة إليه.

وبعد إنشاء الجامعة المستنصرية في بغداد؛ أخذت بالتطور والاتساع لتضم اثني عشر كلية، من أهمها: كلية الطب، وكلية الصيدلة، وكلية الهندسة، وكلية طب الأسنان، وكلية العلوم، وكلية الآداب، وكلية الإدارة والاقتصاد، وكلية العلوم السياسية، وكلية القانون، وكلية التربية. كما تَضُم الجامعة ستةً من المراكز العلمية والبحثية والاستشارية؛ أهمها: مركز المستنصرية للدراسات العربية والدولية، والمركز العراقي لبحوث السرطان، والمركز الوطني لأمراض الدم، ومركز الحاسبة الالكترونية. إضافة إلى ذلك يلحق بالجامعة؛ مَعْلَما مهماً من معالم الثقافة والمعرفة؛ وهو: المكتبة المركزية، تأسست سنة 1964م، وتقوم على بناء مستقل عن الجامعة، وتحوي أكثر من (188985) كتاباً. بالإضافة إلى مجاميع كبيرة من الأطاريح، تبلغ حوالي (17567) أطروحة.

وعلى مدى ما يقرب النصف قرن من عمر الجامعة المستنصرية، تخرج بها مئات الآلاف من الطلبة في مختلف التخصصات، بزغ فيهم العديد من جهابذة الطب والعلم والأدب والثقافة، من الذين أستحصلوا شهاداتهم العليا من الجامعة نفسها، أو ممن أكملوا دراساتهم ((العليا)) في جامعات العالم الأخرى، وحاز هؤلاء على أرفع الألقاب العلمية، وتبوؤا مناصب مهمة في العراق ودول عربية وغير عربية، وكان لهم الأثر الفاعل في دعم الحركة العلمية والثقافية من خلال ما ساهموا به من بحوث ودراسات وتآليف، هي الأرقى في ميادينها، ويشكل قسم كبير منها أهم المصادر والمراجع لدى الدارسين والباحثين في العالم العربي والإسلامي.

واليوم وبعد الاحتلال الغاشم لبلاد الرافدين؛ وما صاحبه من تدمير وهدم وإفساد، وقتل وتهجير وإبعاد؛ أصاب المستنصرية - كغيرها من الجامعات والمؤسسات – أحداث مروعة جِسام، وجروح دامية عِظام، ومصاب كبير جلل، إذ فقدت نخبة من أفاضل علماءها وأساتذتها، والذين يمثلون خيرة الكفاءات العلمية في هذا البلد، امتدت إليهم بالخطف والاغتيال أياد الغدر التي تقف وراءها قوى متعددة يجمعها الحقد على بلاد الرافدين، والرغبة في منعه من الرقي والنهوض، وابعاده عن دوره الحضاري والتاريخي في مناصرة قضايا الأمة، والدفاع عن حقوقها، ومواجهة ما يجابهها من تحديات.

ووفق ما هو منشور من بيانات وإحصاءات موثوقة؛ بلغ عدد الكفاءات العلمية التي جرى تصفيتها واغتيالها من الجامعة المستنصرية لوحدها ما يقرب من (40) شخصاً!!، بينهم (38) شخصاً ممن يحملون شهادة ((الدكتوراه))!!، منهم (13) شخصاً بمنصب عميد كلية، أو معاون عميد كلية، وهم كل من عمداء كلية الطب، وكلية التربية، وكلية العلوم، وكلية الهندسة، وكلية القانون. ومن المهم الإشارة إلى أنه قد جرى اغتيال أكثر من عميد لكلية الطب في الجامعة المستنصرية على مدى السنوات الماضية التي أعقبت الاحتلال. هذا بالإضافة إلى عمليات الخطف والقتل المنظمة التي نالت عدداً كبيراً من الطلبة والطالبات، على أبواب الجامعة، بل وفي داخل أروقتها أيضاً، من قبل العصابات والمليشيات المهيمنة على جميع مرافق الجامعة، والمتحكمة في مفاصلها الإدارية.

ووسط حالات الرعب والإرهاب الذي تمارسه هذه المليشيات تستشري حالات الفساد المالي والإداري في معظم أقسام ودوائر الجامعة. الأمر الذي فاقم من حدة التنافس والصراع على إدارة أقسامها، ورئاستها، حتى أصبح لها في شهر آذار من هذا العام 2009م رئيسان في وقت واحد، يتصارعان على المنصب لأيام عدة، احدهما مُعترف به في أروقة الجامعة فقط، وغير معترف به من قبل وزارة التعليم العالي!! وآخر معترف به من قبل وزارة التعليم العالي، وغير معترف به داخل اقسام الجامعة ودوائرها!! وهذه سابقة لم يحصل مثلها في تاريخ الجامعات العراقية قاطبة، بل وفي تاريخ جامعات الدنيا كلها. الأمر الذي يعكس حالة الفوضى والانهيار في النظام الإداري، والمهني والأخلاقي إلى حد غير مسبوق.

ومن الظواهر البارزة التي طرأت بعد الإحتلال في عموم الجامعات، وعلى وجه الخصوص الجامعة المستنصرية؛ تدني المستوى التعليمي فيها، وانتشار ظاهرة الغش الامتحاني، وتغليب العلاقات الشخصية والإعتبارات الحزبية والطائفية على الكفاءة في تقييم الطلبة واستحقاقات النجاح، والأدهى من ذلك والأمَر؛ تزوير الوثائق والشهادات بما في ذلك شهادات الدراسات العليا، ومنحها لمن لايستحقها، خلافاً للقوانين والنظم الجامعية.

ويأتي هذا كله مع استمرار دوامة الصراع بين الأحزاب والمنظمات والقوى المذهبية الطائفية، للسيطرة على مرافق الدولة ووزاراتها ومؤسساتها، بما فيها الجامعات، استغلالها لتحقيق الأغراض الشخصية والفئوية، والمصالح الحزبية والطائفية. وقبل أيام قليلة بلغ الصراع ذروته، وتحول إلى فوضى عارمة وأعمال شغب واعتداء داخل الحرم الجامعي، مما دفع برئيس الوزراء الحالي إلى تعطيل الدراسة في الجامعة المستنصرية لمدة أسبوع، وتعليل ذلك بحسب ما جاء في البيان الحكومي بـ((أعمال الشغب التي تثيرها بعض العصابات والأفراد غير المنضبطين في الجامعة المذكورة))، ولم يشر البيان إلى الدوافع وراء أعمال الشغب هذه! ولا الجهات السياسية التي تقف وراءها! وما صلة ذلك برئاسة الجامعة؟! وما علاقته بالفساد الإداري والمالي فيها؟!

هكذا آلت الأمور في ثاني أهم منارة للعلم وقلعة من قلاع المعرفة في بلاد الرافدين، في ظل الإحتلال، ومَن جاء بهم، وصدق الأفْوه بن مالك الأوديّ حين قال:

لا يصلحُ الناسَ فوضى لا سَراةَ لهم

ولا سَراةٌ إذا جُهَّالُهم سادوا

تُهدى الأمور بأهلِ الشرد ما صلَحَتْ

فإنْ تولَّت فبالأَشرارِ تَنْقادُ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق