السبت، 24 أكتوبر 2009

مصر تنقض شروط الوكالة الحصرية

د. مصطفى يوسف اللداوي

كاتبٌ وباحث فلسطيني

لا أحد يستطيع أن ينكر أهمية الدور المصري في المسألة الفلسطينية منذ أن بدأت في العقد الأول من القرن الماضي، فقد توارثت الحكومات المصرية، منذ الملكية وحتى الجمهورية المسألة الفلسطينية، ورعت الجهود الفلسطينية، واستضافت القيادات الفلسطينية، وساهمت إلى حدٍ كبير في ديمومة الثورة الفلسطينية، وأدارت قطاع غزة منذ نكبة عام 1948 وحتى نكسة حزيران 1967، وتركت آثارها على الشارع الفلسطيني كله لا سيما على قطاع غزة، حيث ظل سكان قطاع غزة متعلقين ومرتبطين بمصر حتى بعد خروج الإدارة المصرية والحاكم المصري العام من قطاع غزة، ويكاد يكون أغلب حملة الشهادات من كبار السن في قطاع غزة من خريجي الجامعات المصرية، التي فتحت أبوابها لسنواتٍ طويلة حتى عام 1977 أمام طلبة قطاع غزة، فخرجت الجامعات المصرية الأفواج الأولى من أطباء ومهندسي وقانوني وأساتذة قطاع غزة، وأثرت مصر بلهجتها كثيراً على لهجة أبناء قطاع غزة، الذين بقوا لسنواتٍ طويلة يتابعون مختلف القنوات التلفزيونية المصرية، وذلك قبل عهد الفضائيات التي اخترقت كل الحدود، وأصبح للأندية الرياضية المصرية مؤيدون ومشجعون فلسطينيون في غزة يضاهون جمهورها في مصر .

لا أحد ينكر فضل مصر، وتضحية وعطاء شعب مصر، فقد خاضوا من أجل فلسطين حروباً عدة، وقدموا على الجبهة الفلسطينية والمصرية آلاف الشهداء، وتكبدوا مشاقاً ومعاناة، وعانوا لسنواتٍ من حرب الاستنزاف التي شلت مرافق الحياة لديهم، ولحق الدمار ببعض مدنهم، وأثرت حالة الحرب على بنية اقتصادهم وعلى بنية مجتمعهم، ومن أجل فلسطين قتل وأعدم أسراهم، ودفنوا في عمق الصحراء، ويدرك الفلسطينيون وغيرهم من العرب أنه لا قدرة لديهم على خوض حربٍ دون مصر، فجيش مصر عبر التاريخ كان هو السواد الأعظم لجيوش المسلمين في كل معاركهم، على أرض مصر أو على أراضٍ عربية أخرى، فمصر ماضياً وحاضراً ومستقبلاً كان لها الدور الأكبر في المسألة الفلسطينية ومازال.

ولا يستطيع أحد أن يزاحم مصر على مكانتها ودورها وتأثيرها وقوة فعلها في الشارع الفلسطيني، ولا يحق لأحدٍ أن يحاول مزاحمتها، اعترافاً بفضلها ودورها، ثم إقراراً بحقها في حماية حدودها الشرقية، وتأمين أرضها من اعتداءات الدولة العبرية، التي دأبت لسنواتٍ ماضية على الاعتداء على الأراضي المصرية، فإسرائيل دولة معتدية ومتغطرسة، ولا تراعي الأعراف والقوانين الدولية، وتحرص دوماً على اختراق العهود والمواثيق، فتعتدي على جيرانها، وتقتل وتدمر وتخرب، وتزرع العملاء وترسل الجواسيس، وتبث العيون، وتحاول أن تفسد العلاقات الدولية، وتتآمر على مقدرات الأمة الإستراتيجية، لذا فإن من حق مصر، وهي الدولة العريقة الكبيرة القديمة، أن تحافظ على أمنها الاستراتيجي، وأن تتحسب من الاعتداءات الإسرائيلية على سيادتها وعلى خزانات مياه نيلها، ولها أن تلقي بكل ثقلها في الشارع الفلسطيني، حرصاً على مصالحها الوطنية، وغيرةً على مستقبل ومصير الشعب الفلسطيني، الذي يتطلع بعيون الأمل إلى الدور المصري القومي القديم، الذي شكل دائماً طود النجاة لفلسطين، وعبر عن كل معاني الأخوة والشهامة والنبل التي تربط مصر بفلسطين، فمصر في عيون الفلسطينيين عموماً، وفي عيون أبناء قطاع غزة على وجه الخصوص هي بوابة الأمل وجسر المستقبل .

ولكن على الرغم من اعتراف الفلسطينيين كلهم بأهمية الدور المصري ووجوب وجوده دوماً، إلا انهم يعيبون على الحكومة المصرية مجافاتها للحق، وانحيازها لطرفٍ دون آخر، وإزدواجية المعايير التي تتبعها، وتعدد المكاييل التي تستخدمها، ويعيبون عليها مساهمتها إلى حدٍ بعيد في فرض الحصار القاتل على سكان قطاع غزة، ومحاولتها إضعافَ طرفٍ لصالح آخر، فإن كان أهل غزة يعتبرون أن مصر هي الوكيل الحصري لقطاع غزة، بل للمسألة الفلسطينية كلها، فإنهم يرون أهمية أن تتحلى مصر بأخلاق الوكيل الحصري، التي هي أخلاق الوسيط المصلح الساعي بالخير بين الأطراف، والذي يقف على مسافةٍ واحدة من كل الفرقاء، والذي يعمل دوماً على تقريب وجهات النظر، وتقصير المسافات، وردم الهوات، والحيلولة دون تفجر الأزمات، أو نشوب الصراعات، فأهل غزة الذين يثقون بمصر التاريخية وبأدوارها ومواقفها، ينتظرون من الحكومة المصرية مواقف أكثر حكمةً وإنصافاً، فلا ينبغي أن تحكم الحصار على مرضى وفقراء قطاع غزة، من أجل أن تضيق الخناق على فصيلٍ فلسطيني، لتجبره على التنازل أو القبول بشروطٍ لا يرتضيها ولا يقبل بها، ولا يشعر بحياديتها، فلا يليق بمصر التي هي كنانة العرب، أن تحارب أهل غزة كلهم في لقمة عيشهم، وفي الدواء المسكن لآلامهم، وفي مختلف وسائل عيشهم، فتحكم إغلاق البوابات المغلقة، وتضيق الحصار على الناس المحاصرين من كل جانب، وتصادر الأموال التي تخرج من جيوب العرب والمسلمين لنجدة أهلهم في غزة، فتحرم الأطفال من قوتهم، وتلاميذ المدارس من كتبهم، والفتيات من كسوة عرسهم، ومن فستان فرحهم، وتمعن أكثر في خنق الإنسان الفلسطيني في غزة، لترغم بعض أهلها على الإذعان، فهذه ليست الأخلاقيات المنتظرة من دولةٍ في حجم مصر، ولها تاريخ مصر، وإرث مصر الحضاري والقومي العظيم الذي يصعب على احدٍ إنكاره .

لا أحد ينكر ما لمصر الكبرى علينا جميعاً من فضلٍ وحق، فلها علينا حق مشورتها والاتئناس برأيها، والاستماع إلى نصحها، والاستفادة من خبراتها وتجاربها، ولكن لنا عليها أن تصدق في نصحنا، وأن تخلص في رعايتنا، وأن تكون عادلة في مواقفها، منصفة في سياساتها، وأن تتعامل مع الفرقاء الذين هم أبناؤها بالعدل والسوية، وأن تتحرى الصدق والدقة فيما تقول وفيما تقدم، وألا تستخدم حاجة الناس لإرغامهم، ودفعهم لقبول مالا يرضون أو يحبون، وحريٌ بمصر أن تحافظ بجدارةٍ وأصالة على وكالتها الحصرية لغزة خصوصاً وللمسألة الفلسطينية عموماً، وألا تنكث ما قد غزلته سنين طويلة، فأهل غزة أحرارٌ كرام يموتون جوعاً ولا يأكلون "بثديهم" ، مهما اشتدت الخطوب، وعظمت المعاناة، وتضاعفت الضغوط والتهديدات، وما لم يعطه أهل غزة تحت وابل النيران الحارقة، لن يعطوه في غرف الحوار وقاعات المفاوضات، ولن تتمكن العصا الإقليمية أو الدولية مهما كانت غليظة من فرض وقائع جديدة، أو تغيير معايير الوفاق والإتفاق .

بيروت في 23/10/2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق