الخميس، 15 أبريل 2010

ألف سنة مفقودة


د. محمد سعد أبو العزم  

أن تشق طريقك في الصخر، وتصل إلى أعلى درجات التخصص في مجالك، بحيث تصبح عالمًا يشار له بالبنان فهذا شيء رائع، ولكن أن تهب علمك وكل حياتك من أجل تحقيق رسالة سامية، تتمثل في إبراز الوجه الحضاري للإسلام، فهذا أمر أكثر من رائع، يستحق أن نرفع لأصحابه القبعات تقديرًا لهم.
كان يوم السادس والعشرين من مارس الماضي يومًا مميزًا بالنسبة له، فقد تمكن فيلم (ألف اختراع واختراع) والذي قام ببطولته الممثل الفائز بجائزة الأوسكار "السير بن كينغسلي"، من أن يحصد أربعة جوائز رئيسة، من ضمنها جائزة أفضل فيلم تعليمي وأفضل تصوير، هذا الفوز يجب أن يكون له طعم مختلف بالنسبة لنا جميعًا، فالفيلم الفائز من إنتاج مؤسسة "العلوم والتكنولوجيا والحضارة الإسلامية" وهو يروي قصة المنجزات التي قدمتها الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي، ومدى تأثيرها وفضلها على العلم الحديث، وهذه هي المهمة التي وهب البروفيسور "سليم الحسني" حياته من أجلها، بهدف الكشف عن الألف سنة المفقودة من تاريخ العلوم ومن المناهج الدراسية في العالم، والتي تسمى بالعصور المظلمة في أوروبا، وهي في الحقيقة العصور الذهبية عند العالم الإسلامي.
لعلنا في الظروف التي تعيشها الأمة حاليًا لا ندرك مدى تأثير الحضارة الإسلامية في الحياة اليومية لكل البشر، وهو أمر يجب أن نشعر بالفخر من أجله، فبعدما يستيقظ أي مواطن في أوروبا فإنه يستخدم الصابون وهو اكتشاف إسلامي، ثم يشرب القهوة وهي أيضا اكتشاف إسلامي، وبعدها يقرأ الجريدة حيث قام المسلمون بتحسين أوراقها بعد جلبه من الصين، وهناك البعض يفضل قراءتها بالنظارة وهي أيضا اكتشاف إسلامي للحسن ابن الهيثم، وإذا اقتضت الضرورة ذهابه للمستشفى سيجد أن كثيرًا من معدات الجراحة والحبوب والكبسولات فضلاً عن العمليات الجراحية أصولها إسلامية، بما فيها خيوط الجراحة التي لا نزال نستخدمها بشكل يومي.
"
سـليم الحسـني".. بغدادي النشأة، يشغل حاليًا منصب أستاذ كرسي الهندسة الميكانيكية في جامعة مانشستر الإنجليزية، وأستاذًا فخريًا في الدراسات الإنسانية، وقد تم اختياره كممثل خاص لرئيس الجامعة لشؤون الشرق الأوسط، وشغل منصب المدير الفني لشركة الهندسة العكسية، كما تم اختياره كخبير في المحاكم الدولية للشئون العلمية، بالإضافة لكونه مستشارًا لعدة جامعات بريطانية وعالمية، تم منحه جائزة" جيمس كلايتن" لأحسن بحث عالمي منشور في مجال الهندسة الميكانيكية، وأخيرًا.. فقد كرمته الحكومة البريطانية لحصوله على جائزة أحسن عالم ومهندس ومدير أعمال قام بخدمة المجتمع، وقدم له الجائزة رئيس الوزراء السابق "توني بلير".
بداية الرحلة كانت من مجرد فكرة سمعها "الحسني" من البروفيسور "دونالد كاردويل" -وهو أحد العلماء المؤسسين لمتاحف تاريخ العلوم والصناعة ببريطانيا- والتي كان يتحدث فيها عن أهمية البحث في الفجوة التي تقدر بألف عام في تاريخ العلوم، أثناء فترة العصور المظلمة بأوروبا، وما يقابلها من فترة العصر الإسلامي، وعندما بدأ "الحسني" في تتبع تلك الفترة لم يستطع الرجوع، لأنه وجد انجازات مذهلة لعلماء مسلمين كرسوا حياتهم لخدمة مجتمعاتهم في مجالات متعددة كالهندسة والطب والفلك وغيرها، ومن ثم بدأ رحلة جديدة من استكشاف المخطوطات، بالإضافة إلى الكتب والمراجع الخاصة بتاريخ الهندسة، تلا ذلك مرحلة التطبيق العملي لرسم الآلات الموصوفة في بعض المخطوطات العربية بطريقة حديثة، ثم تمت معالجتها بالأساليب الرياضية والهندسية، وإخراجها عن طريق الرسوم المتحركة ذات الأبعاد الثلاثية، وبالرغم من أنه قام حتى الآن بالبحث في خمسين ألف مخطوطة من بين ما يزيد عن خمسة ملايين مخطوطة لحضارتنا الإسلامية، إلا أن حجم الحقائق التي تكشفت له حتى الآن كان مذهلاً، ولعل أهمها هو حجم التقدم العلمي الذي وصلت إليه الحضارة الإسلامية في ذلك الوقت، بالإضافة إلى مظاهر الحياة الحضارية والتنموية للمجتمعات الإسلامية حينها، والتي توضح نهضة متكاملة من كافة النواحي الاقتصادية والاجتماعية، أو حتى من حيث تعاملها مع البيئة، حيث كان المسلم محافظًا على بيئته لأبعد حد من خلال تعامله مع المياه والحيوانات وبقايا طعامه.
حماس الدكتور "سليم الحسني" لرسالته، وعمله الدءوب لفكرته لا ينتهي، فقد قام بإطلاق موقع الحضارة الإسلامية على شبكة الإنترنت، والذي يرتاده يوميًا ما يزيد عن المائة ألف زائر غربي، ثم قام بإعداد كتاب (ألف اختراع واختراع) وأهداه إلى جميع المدارس الناطقة بالانجليزية في أوروبا، كما قامت المؤسسة بإعداد أفلام تحمل نفس الرسالة في وسائل الإعلام الأجنبية المختلفة، بالإضافة إلى معرض (ألف اختراع واختراع) الذي تم افتتاحه في العاصمة الانجليزية لندن، بتمويل من مؤسسة عبد اللطيف جميل لخدمة المجتمع، حيث سيبدأ المعرض رحلته من هناك ليتجول في أرجاء العالم، عارضًا منجزات الحضارة الإسلامية، كل هذه العوامل ساهمت في تحول كبير لنظرة الغرب نحو المسلمين، وكذلك التعريف بالأصول الثقافية للعلوم الموجودة حاليًا، فضلا عن نظرة المسلمين لأنفسهم، من حيث اعتزازهم بجذورهم، ورغبتهم بأن يكونوا أفرادًا مخلصين ونافعين لمجتمعاتهم اقتداءً بالأجداد.
في النهاية لا أجد أفضل من الخلاصة التي توصل إليها الدكتور "الحسني" بعد هذه السنوات الطويلة من البحث، حينما اكشف أن تأثير القرآن الكريم والسنة النبوية في المسلمين الأوائل كان مختلفًا، ففهمهم لمعنى العمل الصالح أشمل بكثير من فهمنا الآن، لقد كان العمل الصالح يتضمن كل عمل ينفع المجتمع، كان شغل العلماء الشاغل أن يكونوا نافعين للمجتمع والبيئة من خلال سعيهم للاكتشافات التي تخدم أهدافهم السامية، كانت أموال الزكاة والأوقاف تتجه لدعم العلوم والمؤسسات العلمية والصناعية، ولم يقتصر دورها على بناء المساجد والأعمال الإغاثية، ونتيجة لذلك فقد تميزت المجتمعات وقتها بالازدهار والصلاح معًا.
كلمة شكر أخيرة واجبة، للقارئ العزيز الدكتور محمد الرملي الأستاذ بكلية الحاسبات والمعلومات، والذي لفت انتباهي إلى شخصية اليوم العظيمة بإنجازاتها، بالإضافة إلى شخصية أخرى لا تقل عنها عطاءً سنتحدث عنها في الأسبوع القادم إن شاء الله.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق