الخميس، 15 أبريل 2010

المقاومة والسياسة


أهمية المقدمات السياسية في انبثاق الجيل الثاني للمقاومة العراقية
                                                                                  د . خالد المعيني
      باحث في مركز دراسات الاستقلال
( إن المقدمات الصحيحة قد تؤدي إلى النجاح ، لكن المقدمات الخاطئة  تفضي حتما إلى الفشل ....)                                                                   
   يستطيع أي باحث في تجارب الشعوب وهي تقاوم العدوان والاحتلال ، أن يتلمس بعض المفاتيح ويشتق بعض القوانين والشروط والمعادلات التي أدت بهذه التجربة إلى النجاح أو بتلك التجربة إلى التعثر والانكفاء ، بل إن بعض هذه التجارب رغم خصوصية كل منها ، قد شهدت في نفس النموذج تلكؤا وإخفاقا إلى حد إخمادها  في المراحل المبكرة ، ثم ما لبثت أن نهضت من تحت الرماد وانتصرت ، بعد أن وضعت يدها على عناصر ضعفها ، لتنتزع في خاتمة المطاف استقلال شعوبها المقهورة وحريتها ، وكثيرة هي العوامل والشروط التي تتطلب مراجعتها في هذا الصدد ، فطبيعة القيادة ، والحاضنة الشعبية ، والدعم الخارجي ، عناصر لابد منها  وهي غاية في الأهمية وينبغي الوقوف عندها, لكننا سنركز في هذه المقالة على أهمية وحاكمية شرط, هو بمثابة مفتاح أساسي لاغنى عنه في أي نموذج مقاومة يراد أن يكتب لها النجاح ، ذلك هو شرط توفر الفكرة والرؤية السياسية الواضحة ، التي تمثل بوصلة المقاومة بكافة أشكالها في بحر الصراع ومتغيراته المتقلبة ، وبدونها تصبح المقاومة بطولة ورومانسية ومضيعة للجهود والدماء  .
     تشير  أدبيات المقاومة , إلى إن الموجة الأولى من تجربة الشعب الفيتنامي في المقاومــة ( 188– 1900 ) ، كان نصيبها الإخفاق والفشل ، بل وتم إخمادها كليا من قبل الاحتلال الفرنسي ، ويعزو " هوشي منه " قائد مقاومة الشعب الفيتنامي لاحقا ، في معرض تحليله لأسباب هزيمة الشعب الفيتنامي في المرحلة الأولى ، إلى إن هذه المقاومة قد تم قيادتها بآيديولوجيا تقليدية (كونفوشيوسية –  فلاحية ), إضافة إلى عدم وجود قيادة مركزية موحدة , شدة القمع الاستعماري ، والدور السلبي للكاثوليك والأقليات الأخرى .
 يضيف " هوشي منه " لقد كافحنا وضحينا بأنفسنا في سبيل الاستقلال الوطني والحرية ، وإذا كنا فشلنا ، فليس مرجع ذلك إلى قوة الاحتلال ، وإنما فقط لان الظروف لم تكن ناضجة ، ولان مواطنينا لم يعملوا في البلاد بأسرها بقلب واحد وعقل واحد .
  لم يكن قادة المرحلة الأولى من مشايخ الكونفوشيوسية يفتقرون إلى الوطنية والدعم الشعبي أو إلى الإرادة ، بل كانوا يفتقرون بصورة رئيسية إلى أفكار حديثة تتكيف مع العصر وتستجيب إلى متطلباته ,  لقد ناضل هؤلاء القادة بعقلية الحنين إلى ماضي لن يعود ، عقلية جعلتهم بلا آفاق مستقبلية .
   في فيتنام عندما أنهار المجتمع و رغم التضحيات الجسام في مواجهة الاحتلال ، لم يتم التحسر على الماضي ، بل تمت مواجهة الحقائق كما هي ، وصياغة التساؤلات الكبرى كمقدمة لحل التناقضات ، وكان ذلك يجري بالدرجة الأساس على مستوى النخب الواعية .
    لقد حفزت الانتقالة الجديدة في نمط التفكير التقليدي الكونفوشيوسي إلى نمط التفكير المستقبلي والحديث ،   ومن موقف الإحباط الكامل  واليأس العميق والعزوف نحو  الاستسلام تارة والتصالح مع الاحتلال تارة أخرى ، إلى بداية انطلاقة جديدة وخط شروع لانجاز النصر الفيتنامي التاريخي ، بعد أن تم حل معظم التناقضات والإجابة على جميع التساؤلات بكل وضوح ومصداقية ،لقد حدثت جراء ذلك في الحقيقة إنتقالة نوعية  في نفسية المقاتل الفيتنامي ، قائمة على الثقة المطلقة في المستقبل وبحتمية الانتصار ، كما اكتسبت الأجيال الجديدة  زخم المبادرة والهجوم بدل الإحباط واليأس ، ولكنها هذه المرة بصورة منظمة ووفق برنامج  ومنهاج سياسي واضح الطريق والمعالم, لقد كانت الأسلحة الفكرية الحديثة هي المطلوبة في تحقيق هذه الانتقالة قبل الأسلحة المادية التقنية .
    بخصوص تجربة المقاومة العراقية ، من الواضح إن هذه المقاومة قد خاضت صراعا عسكريا ضاريا في المرحلة السابقة ، ولكنها في نفس الوقت وبعد سبع سنوات أصبح لزاما عليها أن تخوض صراعا سياسيا واجتماعيا لا يقل ضراوة .
          لقد أنجزت المقاومة العراقية بما لا يقبل الشك إنجازا عسكريا هائلا ضد القوات الأمريكية المحتلة ، إلا إن هذا الانجاز ظل إنجازا بساق واحدة ، فقد وجدت فصائل هذه المقاومة  وبعد انخفاض مستوى عملياتها العسكرية , نفسها في حالة من الفراغ والحيرة ، نتيجة عدم امتلاك إستراتيجية مستقبلية متكاملة لإدارة الصراع ، يتيح لها عنصر المناورة في الإمكانيات السياسية والإعلامية  لتعويض النقص الحاصل على المستوى العسكري ، وزاد وعمق من هذه الغربة إن صح التعبير طبيعة هذه الفصائل وخلفياتها وجذورها العقائدية أو التاريخية المتباينة .
    إن العلة الرئيسية التي رافقت تجربة عمل فصائل المقاومة العراقية في المرحلة الأولى, تكمن في كيفية توظيف قيم الإسلام السامية ، والخزين النقي والفطري لها في ذاكرة العراقيين الذي كان له الفضل الأول في قدح زناد المقاومة بوجه الاحتلال الأمريكي ، في وقت لم تكن فيه أي من الأحزاب العقائدية التقليدية مهيأة أو لديها القدرة على ذلك ، هذه القيم كانت  طيلة المرحلة الأولى كفيلة بهزيمة  الاحتلال  الأمريكي  عسكريا  ،   وكانت  المعادلة السائدة  طيلة سنين  هذه  المرحلة ( الاستشهاد في سبيل الله = قتل العدو وكسر إرادته ) ، ولكن هذه المعادلة عجزت فيما بعد ولا تزال عن القدرة في طرح بديل شامل وعصري حديث لملء الفراغ أو إدارة متغيرات الصراع اللاحقة بصفحاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى القانونية , سواء في المناطق التي كانت تديرها هذه الفصائل أو خارجها فيما بعد .
   من هنا نشأت  في هذه المرحلة الحرجة علامات استفهام كبيرة يأتي في مقدمتها تساؤلا مركزيا لا يمكن تجاهله  ، ويشكل تحديا ماثلا أمام فصائل المقاومة العراقية ، ماذا لو انطلقت موجة ثانية من المقاومة يقودها جيل يكتوي يوميا بنار المعاناة التي وصلت حدودا لا تطاق ولا يمكن تحملها ، قد تنذر بأسوأ العواقب ،هل ستقاد بنفس القوانين السابقة ونفس المعادلات ، التي افتقرت إلى  معايير الإستراتيجية والتخطيط الشامل ، أليست هناك تخوفات من احتمال تحول العراق حيثما خفت قبضة الاحتلال أو زالت كليا, إلى تنور من العنف المنفلت ، أو إلى ما يشبه إمارات حرب ، يصعب السيطرة عليها ، ويسهل كما حصل في المرحلة الأولى توجيهها والتحكم فيها من هذا الطرف لتأخذ بعدا طائفيا وعنصريا .   
     ورغم اختلاف التجربتين العراقية والفيتنامية وخصوصية كل منها, ولكن لم تكن قوانين وسياقات عمل المقاومة الفيتنامية والتي كانت أحد أهم أسرار انتصارها, لتسمح في أي حال من الأحوال بحمل السلاح ، إلا لمن اجتاز تأهيلا سياسيا يؤهله معرفة أهداف هذا العمل ، وكانت لا تنفذ أي عمليات قتالية في مناطق ليست فيها للمقاومة قواعد سياسية مسبقة ، وكانت هناك " مفارز سياسية " تجوب القرى والأرياف والسهول وتعيش وسط الفقراء والفلاحين تتفهم معاناتهم وتتنفس هوائهم  ، تقنع الناس بعدالة قضيتهم ، وتجيب عن تساؤلات المواطنين قبل أن تكبر ، وتشرح لهم الدوافع والأهداف السياسية, وتعمل هذه المفارز السياسية على حل أية تناقضات قد تنشأ في عقول الجماهير.
      في التجربة الفيتنامية تأصلت بحكم الخبرة الطويلة في مقارعة الاحتلال قاعدة ثابتة في العمل الميداني ، تتمثل هذه القاعدة في تهيئة عمل سياسي دعائي نفسي محكم قبل المباشرة بأي فعل عسكري قد لا يحظى برضا الناس ، كانوا يكسبون قلوب وتعاطف هذه الجماهير قبل أن يستولوا على عقولهم ، فواجب هذه المفارز السياسية كان يتلخص برفع درجة الاتقاد سياسيا وبالتدريج وسط الجماهير لإيصاله في نهاية المطاف إلى العمل المسلح ، ولم يكن القائد السياسي في أي منطقة أقل أهمية من القائد العسكري في نفس المنطقة  ، فأحدهما يكمل الآخر ، ففي النهاية هذه الشعوب هي الغاية والوسيلة ، وهي من يصنع التاريخ لأنها المعين الذي لا ينضب لضمان استمرار المقاومة .
   في التجربة العراقية وهنا تكمن خصوصيتها ، انبثقت المقاومة العراقية بصورة عسكرية صرفة,  ولم يتهيأ لها أن تستكمل مقومات جناحها الثاني الذي كان ينبغي أن تطير به ، ألا وهو الجناح العسكري ، وقد شكل هذا النقص أحد أهم مقومات ضعفها على مستوى الانجاز الاستراتيجي ، حتى عندما وصلت المقاومة إلى ذروة أدائها العسكري الذي لم تصله أي تجربة مقاومة أخرى في العالم ، خاصة في عامي ( 2006 – 2007 ) ، حيث كانت القوات الأمريكية المحتلة  تتعرض  باعترافها إلى أكثر من 1100 عملية يوميا, تحت تصنيف عملية " مهمة وعنيفة " . 
  ولاشك إن المرحلة الحالية تمتاز بأنها مرحلة حرجة وانتقالية على مستوى تطور فكر وعمل المقاومة العراقية بل ومستقبلها ، وتقع على عاتق النخب السياسية الوطنية  بصورة أساسية مسؤولية  تأمين عبورا  آمنا  وسلسا إلى المرحلة القادمة وذلك من خلال بلورة وتشكيل وعي ومنهاج سياسي واضح يستجيب لمتطلبات الشعب العراقي ويستوعب جميع المتغيرات .
    إن مشاكلنا ومأساتنا ليست محصورة في حقبة الانحطاط التي يعيشها المجتمع العراقي في ظل الاحتلال الأمريكي فحسب ، بل هي سابقة له ، وستبقى مرافقة ومستمرة حتى بعد إزاحة هذا الاحتلال ، ما لم نتمكن فعلا من وضع يدنا على مواضع الجروح العميقة والغائرة في عقولنا قبل أجسادنا ، وأن نضع منذ الآن الأسس الكفيلة ليس بتحرير الأرض وإنما تحرير أنفسنا والعقول من أوهام وتراكم العقد والتشوهات , والانطلاق من خلال تقاليد عمل سياسي جديدة نحو صناعة المستقبل والثقة المطلقة به .
   من جهتها ، على النخب السياسية والفكرية الوطنية ، أن تباشر دون إبطاء بأخذ زمام المبادرة بيدها وبعقولها , لوضع لبنات منهاج وخطاب سياسي ملائم يتسم بالعقلانية والواقعية ، وطرح رؤية مستقبلية واضحة المعالم والطريق ، بالاستناد على أهم إنجازين تحققا في المرحلة الأولى من عمر المقاومة ، وهما دحر القوات العسكرية الأمريكية ، والانجاز الثاني الكبير هو استعادة الشعب العراقي بكافة شرائحه لوعيه الوطني وإسقاطه لمشروع الفتنة الطائفية والعرقية .
    وليس من المتوقع أن تلقى هذه الأفكار الجديدة والحديثة عند طرحها التأييد والقبول في بادئ الأمر, وعند ذلك على هذه النخب أن تتحلى بالصبر ولكن أيضا بالإصرار والعناد والمثابرة على تشكيل وتكريس هذا الوعي الجديد ، وطرح برنامجا سياسيا جديدا للمقاومة ينسجم مع المرحلة القادمة من الصراع التي من الواضح إنها ستختلف فكرا  وأهدافا وطبيعة عن المرحلة الأولى .
   لن تكون هذه المهمة يسيرة كما يتصورها البعض ، فعلى هذه النخب أن تشق طريقها بصعوبة وسط ثلاث أنماط سلبية من التفكير  سائدة اليوم في الساحة السياسية العراقية ، النمط الأول هو أفكار القرون الوسطى الظلامية والمتخلفة وثقافاتها الفرعية التي باتت تتحكم على المستوى الاجتماعي والسياسي بمصائر ومقدرات ملايين العراقيين وتشكل وعيهم التاريخي ، النمط الثاني السلبي المتمثل بنفايات الاحتلال السياسية والأفكار الغربية المستوردة وديمقراطيته الزائفة التي تشكل اليوم فلسفة نظام حكم ما بعد الاحتلال بكافة هياكله وصفحاته السياسية ومنظومات قيمه ، النمط الثالث والأخير الذي ينبغي تجاوزه هو نمط الأفكار الرومانسية الحالمة والمغلفة إما بقوالب  جامدة أو ضيقة ، لا تلبث أن تتكسر على صخور الواقع ، ومن المفارقة إن هناك شبه تحالف ما بين النمطين الأول والثاني .
    في الختام .. لا يمكن لأي باحث موضوعي في الشأن المقاوم إلا أن يقيم العمل المسلح في  تجربة مقاومة أي شعب ضد العدوان والاحتلال ، إلا على إنه رأس الحربة في تحرير هذا الشعوب وسعيها لنيل استقلالها وسيادتها ، فهو وحده كفيل باستنزاف العدو وإنهاكه وضمان عدم استقراره وجعل بقاءه فترة طويلة أمرا مستحيلا ، على أن يكون هذا العمل المسلح  مقيدا بإطار سياسي واضح ، وأهداف سياسية معلومة ، فجوهر القوة يكمن في أصل الفكرة والهدف التي تقف خلف السلاح وليس في السلاح نفسه ، ففي نهاية المطاف لا قيمة للعمل العسكري إلا في حدود تأثيره السياسي والإعلامي والنفسي ، فالعمل المسلح  ليس أكثر من وسيلة وليس غاية بحد ذاته ، وفي حالة بقاءه وسيلة وهدف في آن واحد ، عندئذ سوف يخرج من نطاق مفهوم المقاومة ، لان هذه المقاومة ستغدو بدون بوصلة سياسية ، وقد تخطأ أهدافها فتصيب أصحابها وأصدقاءها وأبناء شعبها الذين حمل السلاح باسمهم ولحمايتهم ، وستكون أكثر عرضة للبيع والشراء والمتاجرة من أطراف خارجية وداخلية . ولنا أن نتصور تحقيق إنجاز عمل عسكري لوحده دون أن ترافقه أية أهداف أو تصورات أو رؤى سياسية واضحة ، فكيف سيكون شكل المستقبل  ؟.

                                                                                           14 نيسان 2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق