الجمعة، 9 أكتوبر 2009

تقـرير جولدســتون‏..‏وخلط أوراق الفلسطينيين والمصالحة !‏

بقلم‏:‏ أسامة سرايا رئيس تحرير جريدة الأهرام المصرية

9 أكتوبر 2009م

أي مراقب للشأن الفلسطيني يرثي لحال الفلسطينيين الممزقين والمتنافرين الذين يتصارعون معا علي أوراق وقضايا وهمية‏,‏ وآخرها ما عرف بتقرير جولد ستون‏..‏ والصراع الآن في الشارع بين الفلسطينيين أنفسهم حيث يتهم فريق الفريق الآخر بأنه خائن ومجرم ويجب القصاص منه لأنه كان وراء تأجيل مناقشة تقرير القاضي الدولي حول جرائم الحرب الإسرائيلية الأخيرة علي غزة‏.‏

والفريق الذي يتهم الآخر بالخيانة وينظم المظاهرات في الضفة وغزة هو نفسه الذي اتهم القاضي جولد ستون عند صدور التقرير بأنه يهودي وغير شريف ومتحيز لإسرائيل‏,‏ لأن تقريره الذي يتضمن الجرائم الإسرائيلية بغزة في‏575‏ صفحة اتهم حماس ـ وهي الطرف الفلسطيني في صراع الحرب ـ بارتكاب جرائم حرب‏,‏ وإذا كان التقرير قد أنصف الفلسطينيين في غزة الذين فقدوا في هذه الحرب الظالمة‏1500‏ ضحية و‏5‏ آلاف جريح ومعاق‏,‏ فإنه سلط بما لا يدع مجالا للشك الضوء علي أخطاء حماس وجرائمها في حق المدنيين الفلسطينيين عندما استخدمتهم دروعا بشرية في الحرب وعندما استخدمت المدارس والمستشفيات منصات لإطلاق الصواريخ ‏.‏

إن تقرير جولد ستون بعد مناقشته في لجنة حقوق الإنسان بالجمعية العامة للأمم المتحدة وتحويله إلي المحكمة الجنائية الدولية قد تحول فجأة إلي أداة في أيدي الفلسطينيين لاستمرار نزاعهم الأهلي وانفصالهم الجغرافي‏(‏ غزة والضفة‏)!..‏ بل ولتأخير المصالحة الفلسطينية التي بذلت فيها مصر جهودا مخلصة ومضنية وحرصت كل الحرص علي أن تكون عادلة بين الفصائل الفلسطينية لتجاوز أكبر كارثة يتعرض لها الفلسطينيون في تاريخهم الطويل وهي الانقسام والاقتتال الأهلي‏,‏ وبالتالي ضياع قضيتهم وتفرق دمها بين القبائل العربية والعالمية‏,‏ والآن بين الفصائل الفلسطينية نفسها‏.‏

وهذه المرة يجب أن يعلم الفلسطينيون‏,‏ ولتعلم قبلهم بعض القوي العربية ذات المصالح الضيقة التي تريد استمرار الصراع الفلسطيني ـ الفلسطيني حتي تسوي صراعاتها الأخري سواء علي أراض محتلة أخري في سوريا أو لبنان أو حتي تتم تسوية القضية الإيرانية برمتها بالكامل بحجة أن الفلسطينيين الذين انتظروا طويلا منذ‏60‏ عاما يمكن أن ينتظروا سنوات أخري حتي تستقر منطقة الشرق الأوسط إقليميا وتسوي كل نقاط الصراع والخلل الإقليمي‏..‏ وهو ما يعني أن يستمر تهميش قضية الشعب الفلسطيني‏.‏

الفلسطينيون يجب أن يعلموا أنهم هذه المرة سيدفعون ثمنا قاسيا وصعبا‏,‏ لأن ظروفهم الإقليمية والدولية لم تعد كما كانت حتي في السنوات السابقة للقضية‏.‏

وسيكون الثمن غاليا ليس علي فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية أو علي حماس وحدها‏,‏ وإنما علي كل الفلسطينيين‏,‏ ولذلك ندعو الجميع‏,‏ وفي مقدمتهم المصريون لكشف المسئولين عن تأخير المصالحة‏,‏ وتعريتهم أمام الرأي العام المحلي والعربي والعالمي‏,‏ لأنهم في هذه المرة لا يلعبون مع بعضهم البعض أو يلهون بقضيتهم‏,‏ كما تعودوا في السنوات الماضية‏,‏ بل يدفعونها إلي النسيان والضياع ويضعون كل الأوراق ليس في أيدي العرب أو الفلسطينيين‏,‏ بل تتحول كل الأوراق إلي أيدي الإسرائيليين وهم أعداء هذه القضية التاريخية الذين يسعون إلي تهميشها بل وتذويبها وتحويلها إلي أثر بعد عين‏.‏

وعلي الشعب الفلسطيني أن يحاسب قادته وفصائله المعلنة للدفاع باسمه عن القضية العربية والفلسطينية أن يسألهم‏:‏ لماذا انجرفتم إلي هذا المستنقع المشين؟

القضية الآن في مفترق طرق صعب وليعلم المصريون وغيرهم ممن يدعمون الفلسطينيين ويسعون إلي انتصار قضيتهم أن اللعبة الآن ليس قضية القاضي جولدستون‏,‏ بل قضية فصائل تتصارع في الشارع الانتخابي علي حساب القضية الفلسطينية وعلي حساب شعبها‏,‏ أو أنها في أيدي قوة إقليمية وعربية تستخدمها لتأجيل المصالحة‏,‏ وتأجيل السير في العملية السلمية وإعطاء الذرائع والمبررات للإسرائيليين وأعداء الشعب الفلسطيني لضرب قضيتهم وتهميشها نهائيا لمصلحة قوي اليمين والتطرف الإسرائيلي المتربصة بحقوق فلسطين وشعبها البطل الأبي المظلوم بتسلط العدو وتطرفه وعدم وعي قياداته أو فصائله وارتباطها بمصالح خارجية لا تخدم قضيتهم‏.‏

يجب أن نضع قضية جولدستون في حجمها الطبيعي‏,‏ ليس دفاعا عن السلطة الفلسطينية‏,‏ فقد أخطأت بالموافقة علي تأجيل مناقشة التقرير أمام لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة‏,‏ وقد اعترفت المنظمة بالخطأ وتعللت بالسرعة وسوء التقدير‏,‏ كما أن خطيئة المنظمة أنها وافقت أو استجابت لرغبة الدول الخمس دائمة العضوية‏(‏ بما فيها روسيا والصين‏)‏ والتي طالبت بالتأجيل إلي مارس‏,‏ حتي تتفادي معارضة الدول الكبري‏,‏ وتحصل علي قرار أفضل‏,‏ لأن تقرير جولدستون له وضع خاص بالنسبة لمختلف القرارات والتقارير الأخري‏,‏ لأنه لأول مرة يقر ويؤكد مواجهة ثقافة الإفلات من العقوبة في الجرائم الدولية ويتمسك بعرض تقريره وإحالته إلي مجلس الأمن والجمعية العامة‏,‏ كما أنه لأول مرة يقر مبدأ الإحالة إلي محكمة الجنايات الدولية‏,‏ دون المرور علي مجلس الأمن والتعرض إلي الفيتو الأمريكي الذي يجهض المحاولات الدولية المتكررة لإدانة إسرائيل وتجريمها أمام المجتمع الدولي‏.‏

ولكن خطيئة حماس ستكون أكبر عندما تستخدم هذا التقرير وتأجيل مناقشته لتأجيج الصراع مع فتح‏,‏ ومحاولة الكسب في الشارع الفلسطيني والعودة إلي اللغة الهابطة التي تندد بالرئيس الفلسطيني محمود عباس‏,‏ وهي اللغة التي يجب علي الفلسطينيين تجاوزها والتخلص من تعبيرات الخيانة وملصقات الدعايات الكاذبة‏,‏ وليتذكروا أن محمود عباس وسلطته بل ومنظمة التحرير ليسوا أعضاء في مجلس الأمن أو وكالة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان‏,‏ وليس من حقهم التصويت‏,‏ فهم أعضاء مراقبون فقط ولا يتحملون حتي مسئولية التأجيل‏.‏

ومع ذلك فإن المنظمة ورئيسها اعترفا بالخطأ وسوء التقدير‏,‏ وأوفدوا ممثلهم إلي مجلس الأمن لدعم الموقف العربي الذي تحرك لإعادة مناقشة التقرير وفضح إسرائيل أمام المجتمع الدولي‏.‏

إن تقرير القاضي الدولي جولدستون مهم‏,‏ ولكنه ليس أول وآخر التقارير‏,‏ ولنتذكر تقرير القس الجنوب إفريقي ديزموند توتو‏,‏ وتقارير المذابح الإسرائيلية المتتالية‏,‏ وآخرها في الضفة والقطاع وقانا وغيرها‏,‏ والتقرير الذي رفعته السلطة الفلسطينية إلي محكمة لاهاي حول جدار الفصل العنصري الإسرائيلي الذي اقتطع ومزق أراضي الضفة الغربية‏,‏ وصدر قرار دولي لم يتابعه العرب أو الفلسطينيون وبالتالي لم يحصلوا علي نتائجه أو مزاياه‏.‏

وهذا لا يعني عدم الاهتمام بالمجتمع الدولي أو بالرأي العام العالمي‏,‏ فهو عنصر مؤثر في الصراع العربي ـ الفلسطيني ويصب حاليا في مصلحة الفلسطينيين‏,‏ بل وأصبح يخيف القادة الإسرائيليين‏,‏ والكثيرون منهم أصبحوا يخشون السفر إلي الخارج خوفا من الملاحقة الدولية‏,‏ وآخرهم إيهود باراك الذي يخشي من الملاحقة الجنائية في لندن‏,‏ ونائب رئيس الأركان السابق‏,‏ ونائب رئيس الوزراء حاليا الذي امتنع عن زيارة أوروبا ولندن خوفا من الملاحقات القضائية‏.‏

‏ولنتذكر أن الأسبان لاحقوا قادة عسكريين إسرائيليين وآخرهم قائد سلاح الطيران لتقديمه للمحاكمة‏,‏ وهناك شواهد عديدة حاليا تصب في مصلحة الفلسطينيين دوليا‏,‏ وأهمها أن الرأي العام في أوروبا وأمريكا بل والقيادات هناك ضد عمليات الاستيطان‏.‏ كما أن الصحافة الإسرائيلية تتحدث يوميا عن أن أخطر ما يواجه إسرائيل ليس المقاومة الفلسطينية‏,‏ ولكنه الموقف المعادي لها في الغرب ويتكلمون صراحة عن أن الخطر علي إسرائيل يأتي من العقلاء العرب القادرين علي كشف إسرائيل والعاملين علي نزع الشرعية عنها أمام المجتمع الدولي وأمام الإسرائيليين أنفسهم وتعريتها بالعدوانية والاستئساد علي الفلسطينيين العزل الباحثين عن حقوقهم‏.‏

ودعونا نقل بصراحة إن عدو قضية الفلسطينيين هي المنظمات التي تربطها بالنزعات الدينية أو الإرهابية فتعطي للقوة الإسرائيلية كل حقوق ضربها وتصفيتها بل وتصفية الفلسطينيين وقضيتهم معا‏,‏ والقوة الأساسية للفلسطينيين هي القضية الوطنية وأخلاقية حقوقهم ونزعتهم الوطنية‏,‏ وليست الدينية‏.‏

إن الفلسطينيين في حاجة الآن إلي المصالحة وإلي أن يوقفوا الاتهامات المتبادلة بينهم‏,‏ وأن ينسقوا أهدافهم‏,‏ ويعطوا الأولوية القصوي لقضيتهم الكبري‏,‏ وأن يتعاونوا معا‏,‏ ولا يتسابقوا إلي المزايدة علي قضيتهم‏,‏ كما أنهم ليسوا في حاجة إلي المزايدات العربية المتكررة‏,‏ ولا إلي المزايدات الإنتخابية‏,‏ وعلي الشارع الفلسطيني أن يعلو علي كل المزايدات والجراح ليكون حكما وفاعلا في التأثير علي الفصائل الفلسطينية حتي لا تكرر لعبتها التنافسية الطاحنة علي حساب القضية نفسها‏,‏ ولا تجعلها كرة في أيدي الفصائل مرة أو أيدي قوي إقليمية أو عربية مرة أخري‏,‏ أو أيدي اليمين والتطرف الإسرائيلي مرات عديدة‏.‏ علينا أن نثق في الشعب الفلسطيني ونحتكم إليه عندما تحتدم الصراعات ويتعذر التوفيق أو التحكيم بينها‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق