الأحد، 18 أكتوبر 2009

الشروط الغائبة للإنتقال من الديموقراطية المحكومة إلى الديموقراطية الحاكمة: الحالة التونسية نموذجا*

قراءة في الإستراتيجيات النضالية للحركة الديمقراطية

الجزء الثاني

الأمين البوعزيزي**

مهام القطب الديمقراطي لتحقيق الإنتقال إلى الديمقراطية الحاكمة

۔ الدفاع عن القانون وفرض علويته:

يؤكد أساتذة القانون الدستوري أن الشعوب تتمسك بدساتيرها وتفرض على حكامها إلتزام تلك الدساتير حتى لو كانت لا تعجبهم بعض أحكامها. لأن كل الدساتير الوضعية تتسم بالقصور، وكل الشعوب تعترف بهذا وترسم طرقا لعلاجه في الدساتير ذاتها. ولكن كل الشعوب المتحضرة لا تقبل تجاهل الدستور أو مخالفته. إذ ليس من مصلحتها أن تبنى مستقبلها على أمر واقع غير دستوري لأنه سينهار حتما. ويؤكدون أن مبرر نشأة الدساتير تاريخيا هو أن تكون بدائل عن الإحتكام إلى القوة الذي كان سائدا قبل نشأتها. ويؤكدون واثقين أن البديل المحتوم عن الإحتكام إلى الدستور هو الإحتكام إلى القوة. مما يجعل خرق القانون في ظل "سيادة القانون" لا يعتبر إستبدادا كما قد يتبادر إلى الذهن. فالحاكم الذي لا يلتزم القانون السائد في المجتمع الذي يحكمه ويعود إلى لعب دور رب الأسرة أو الحامل للحقيقة دون غيره، لا يواجه باعتباره مستبدا بل باعتباره خارجا على القانون، والخروج على القانون الدستوري يعدّ جريمة وليس استبدادا.

لكن الغريب أن المعارضة الديمقراطية تفوت على نفسها هذا المحور النضالي الذي يمثل أحد أهم الأسلحة التي تمنحها رصيدا أخلاقيا وسياسيا في مقارعة الاستبداد الديمقراطي الذي تحتاج مقاومته إلى أسلحة غير التي توجه ضد فضاضة الإستبداد المتخلف الذي يستفز الشعوب إلى المقاومة!!. والأشد غرابة هو براعة النظام في إظهار نفسه في موقع المدافع عن القانون وعلويته في وجه معارضة لا تحترم القانون والحال أنه أسّ مطالبها، في حين يقترف أنصاره يوميا آلاف المخالفات للقوانين!!

وليكن مثالنا الحملة الإنتخابية على سبيل الذكر لا الحصر: لقد انتظرنا بفارغ الصبر جملة الاعتراضات القانونية التي تم بموجبها رفض ال67 قائمة لمرشحي المعارضة، فظفرنا بعدد لا بأس به(8). وبحكم عدم تخصصنا في القانون وبحكم ثقتنا في نزاهتكم فنحن نسلّم بالأخطاء التي قد يكون وقع فيها مرشحو المعارضة.

لكننا نسأل معاليكم ماذا نسمي تسخير إمكانيات الدولة بالكامل للحزب الحاكم ومرشحه للرئاسية؟ هل أن قناة 7 قناة عمومية أم قناة حزبية حتى تتفرغ للحملة الإنتخابية لمرشح الحزب الحاكم؟ ماذا نسمّي تفرغ السيارات الإدارية هذه الأيام للحملة الإنتخابية ؟ ماذا نسمي الحملة الإنتخابية التي تنظمها الشعب المهنية على بنايات الإدارات العمومية؟ هل هذا يتطابق مع القانون الذي تباهي السلطة بحمايته والحفاظ على علويته؟ ماذا نسمي حرمان حزب قانوني من الحصول على فضاء عمومي لإفتتاح حملته الإنتخابية؟ ماذا نسمي التصادم بين نصوص القانون وتطبيقات الواقع؟

هل أن التنقيحات المتكررة للدستور طبقا لحسابات ضيقة لا تتعارض مع مقتضيات دولة القانون؟ أليس تميز المنظومة القانونية وبصفة أخص الدستور بالاستقرار هو أحد سمات الأنظمة السياسية الديمقراطية؟ ماذا نسمي مجزرة هتك الأعراض والحرمات في حق نشطاء الحركة الديمقراطية والحقوقية على أعمدة نشريات لا ندري هل تصدر في تونس أم تدخل مهربة؟ إذ لا نفهم كيف يسمح بترويجها وهي تضرب عرض الحائط بكل القوانين التي تمنع الثلب وتتنكر لكل القيم الأخلاقية التي تسيّج فعل الاختلاف في السياسة؟

فإذا كانت التهم التي توجهها هذه النشريات إلى نشطاء الحركة الديمقراطية والحقوقية صحيحا لماذا لا يحاكمون أمام القضاء ويمتعون بكل الحقوق لإثبات براءتهم أو تتم إدانتهم؟ نحن لا نطلب إنصافهم فهم أقدر على الدفاع عن أنفسهم، لكن نطلب الدفاع عن حرمة القانون وسيادته، فمن يضمن ألاّ يردّ مظلوم الفعل دفاعا عن نفسه؟ هل ندخل مرحلة الفوضى؟ ألا تدافع الشعوب المتحضرة عن دساتيرها وقوانينها حتى وان كانت تتضمن تشريعات لا تنصفها حق قدرها لإيمانها أن البديل المحتوم عن الإحتكام إلى الدستور هو الإحتكام إلى القوة؟ ألم تسلم الشعوب المتحضرة أمر إحتكار العنف الى الدولة لإستعماله طبقا للقانون؟ ما رأي أساتذتنا الأجلاء في المجلس الدستوري والمجلس المشكل لمراقبة الانتخابات؟ أليست بلادنا تفتخر أنها محكومة بمرجعية دستورية منذ قرن ونصف من الزمان؟ أليست الدولة الديمقراطية مثلما تلتزم بالقانون تلتزم كذلك بجملة من القواعد الخلقية والفلسفية غير المكتوبة في دستورها لكنها تشكل لبّ الدولة الديمقراطية؟ فقط نريد أن نفهم!

۔ الوقوف إلى جانب الشعب والدفاع عن استقلالية مؤسسات المجتمع المدني

إن دعوة الحزب الحاكم منتسبيه بضرورة الالتحاق بمنظمات المجتمع المدني وعدم ترك القوى الديموقراطية لوحدها، والتواجد فيها بكثافة للتمكن من الوصول إلى سدة إدارتها بطريقة ديمقراطية للرد على إتهامهم بالإنقلابية، وفاتهم أن الإنقلاب لا يكون فقط بالقوة وإنما يتم بالقانون أيضا، فقد تسفر نتائج مؤتمر أحد الجمعيات أو النقابات عن فوز هؤلاء المنتسبين، لكن ذلك لا ينفي عنهم فعل الإنقلاب، الإنقلاب على وظيفة هذه المنظمات والجمعيات التي أنشئت لتكون مؤسسات شعبية يدافع بها المجتمع عن نفسه في مواجهة تسلط الدولة وهيمنتها، وكل محاولة للسيطرة عليها هو تزييف لطبيعتها وتزييف لحقيقة الدولة الحديثة التي لا تكتمل شروطها إلا بوجود نسيج مجتمعي مستقل عنها وعن مؤسساتها. وينصب جهد الفاعلين فيه من نشطاء الحركة الديموقراطية على كيفية الحيلولة دون أن يختل ميزان القوة بين الدولة ومؤسساتها وبين الشعب ومؤسساته.

فالديمقراطية لا تمارس داخل مؤسسات الدولة، فحتى المجلس التشريعي المنتخب يتحول بمجرد إنتخابه إلى مؤسسة من مؤسسات الدولة وأداة من أدوات الحكم بمعناه الواسع. ومن هنا لا يعتبر مجرد وجود مجلس تشريعي منتخب ظاهرة ديمقراطية ولا دليلا على توفر الديمقراطية، ولكن من مدى ما يتمتع به الشعب من حريات تمكنه من إبقاء تلك المؤسسة في خدمته أداة لتحقيق إرادته في مواجهة المؤسسة الأخرى المسماة السلطة التنفيذية. وليس تاريخ النظام النيابي إلا تاريخ كفاح الشعوب لفرض إرادتها على تلك المؤسسة التي انتخبوا أعضاءها. والتي يمثل الإنتخاب الدوري خطوة ديمقراطية أخرى تتيح للشعب أن يعيد تشكيل المؤسسة التشريعية ويبقى النواب في حاجة مستمرة لإرضائه.

ولا يمل فقهاء القانون من التأكيد على أن الرأي العام بما هو حرية تعبير وحرية إجتماع وحرية صحافة وغيرها هو أحد الأركان الأساسية للديمقراطية في أي حكم، وهي كلها أنشطة تدور خارج مؤسسات الدولة وفى مواجهتها. فحرية التعبير يقصد بها حرية التعبير خارج المجلس النيابي ومؤسسات الدولة، وحرية الإجتماع يقصد بها حرية إجتماع المواطنين من غير أعضاء مجلس الوزراء أو اللجان الحكومية، وحرية الصحافة يقصد بها حرية نشر الأفكار والآراء غير الرسمية، أي غير خطب وبيانات مؤسسات الدولة. والرأي العام الذي يعبر عن ذاته بهذه الأدوات وغيرها هو رأى الشعب وليس رأى شاغلي المناصب في أية مؤسسة حكومية . ففي خارج هذه المؤسسات تقوم أو لا تقوم الديمقراطية. وعلى مدى إنتشار وتنوع وحرية التعبير عن الرأي العام يتوقف إستحقاق أي حكم شرف الإنتساب إلى الديمقراطية.

مما يجعل المعارك التي يخوضها الطلبة لحماية منظمتهم والعمال لحماية اتحادهم والصحفيين لحماية نقابتهم والقضاة والمحامين لحماية جمعياتهم والحقوقيين لحماية رابطتهم، والحيلولة دون وقوعها في شرك الإلحاق والاستتباع، هي معارك مشروعة دفاعا عن الفضاء العام كحق كفلته قيم الدولة الحديثة للشعب ليدافع به عن نفسه في مواجهة الدولة ومؤسساتها. وكل حديث عن الشراكة هو تزييف لدور هذه الجمعيات وتزييف لمفهوم الدولة الحديثة التي لا تكتمل إلا باستقلالية مكونات هذا الفضاء العام، وكل تصد لهذه المحاولات هو دفاع عن الديمقراطية وعن المجتمع وعن الدولة في وجه خطاب يراد له أن يعيش خارج عصره!!

نشــــــارك أم نقـــــــاطع؟

بعيدا عن هاجس الحسابات الانتخابات الآنية، نطرح السؤال التالي:

هل أن فعل المقاطعة خارج شروطه التاريخية يعزل النظام فعلا أم يؤبد حالة التخلف الديمقراطي لدى جمهور المعارضة الديمقراطية والحزب الحاكم والجماهير الشعبية عامة؟

إذا كانت الغاية حرمان النظام من شرط التعددية الذي يمنح فوزه مصداقية يبحث عنها عقب خوض انتخابات تعددية، فهذا الأمر حاصل بفضل الأحزاب الملحقة به حتى لو حصل إجماع بضرورة المقاطعة لدى كل نشطاء الحركة الديمقراطية وهو يكفيها لإقناع شركائها المحتاجين لما يسكن وخز بقايا ″ضمير وتنوير″ لديهم!!

أما بالنسبة للجماهير فمقاطعة الانتخابات كموقف سياسي، لا يؤدي إلى إقناعها بالمقاطعة لأنها أصلا غير مهتمة كثيرا بمسألة الانتخابات ليأس من قدرتها كآلية للتغيير ومن تخلف تاريخي كثيف جدا يجعلها لا تعرف ثمرات الفعل الانتخابي كآلية لسحب الثقة من الحكام أو تجديد الثقة فيهم. مما يدفع المؤمنين بالنضال الديمقراطي أسلوبا في التغيير إلى مقاربة المسألة من زاوية مقاومة التخلف الديمقراطي ودفع الجماهير إلى دائرة الفعل والخروج من دائرة الإنتظارية. وخوض المعركة وتقديم برامج إنتخابية وخطاب إنتخابي جدي ومتمايز عن الحزب الحاكم لحلحلة العقلية التقليدية لدى منتسبي الحزب الحاكم الذين يتعاملون مع مسألة الحكم باعتبارها غنيمة يتوجب مسكها بالنواجذ ودفعهم الى التعاطي معه على أنه تكليف يخضع للمساءلة والمراقبة!!

ولتدريب نشطاء الحركة الديمقراطية وأنصارهم على خوض معركة الديمقراطية بأدواتها، لأنه من المضحك أن نجد مناضلين ديمقراطيين لا أحد منهم يدافع عن حقه في بطاقة ناخب منخرطا في الدعوة إلى مقاطعة الإنتخابات والحال أنه محروم منها أصلا!! ففعل المقاطعة لا يصح إلا لمن هو حاصل لديه حق الإنتخاب في مجتمع لديه تقاليد إنتخابية راسخة فيستعمله سلاحا لعزل السلطة وكم يكون فعالا ساعتها!!

لذلك قلنا إنها دعوة مثالية فاقدة لشروطها التاريخية، أما التحجج بغياب أبسط شروط المنافسة النزيهة فهذا تتويج لمعركة وليس منطلقا. إذ تفيدنا دروس التاريخ أن النظم السياسية الديمقراطية لم تقم من خلال ثورات وإنما من خلال عمليات إصلاح طويلة قادتها حركات سياسية تدعمها إنتفاضات إجتماعية عنيفة تتبعتها إصلاحات ديمقراطية، لكن قلما حصل أن بنيت الديمقراطية دفعة واحدة من خلال عمل ثوري. فحتى حالة الثورة الفرنسية لم تنشئ نظاما ديمقراطيا متكاملا، فقد مرت بمرحلة اليعاقبة الراديكالية وأعقبتها ردات نابليونية وملكية واحتاج الأمر إلى انحسار مرحلة نابليون وإحتلالاته للعودة إلى أفكار معدلة من الثورة (9).

ولعل هذا ما أدركه انخرط فيه مناضلو حركة التجديد والحزب الديمقراطي التقدمي والتكتل من أجل العمل والحريات كأحزاب قانونية تقاوم وتدفع ثمن الحفاظ على استقلالية قرارها. لكن وحده الذي يستلفت الانتباه هو حزب العمل الوطني كأحد الأحزاب غير المعترف بها الذي انخرط في خوض معركة التخلف الديمقراطي الذي يعتبر الاستبداد السياسي أحد مظاهره، متنازلا عن بعض مصالحه السياسية الضيقة لصالح بناء قطب ديمقراطي مازال يلزمه الكثير من النضج السياسي ليقود عملية الانتقال الى طور الديمقراطية الحاكمة، والذي سيتم بكفاحية هذا القطب المنشود، مستفيدا من انتصار الباراديغم الديمقراطي وتحوله الى مزاج كوني ضاغط، والمدعوم بالتحركات الاجتماعية المتعاظمة وحركة الشبيبة الطلابية العائدة، ساعتها فقط ترغم السلطة على إجراء الإصلاحات.

طبيعة الإصلاح الديمقراطي القادم:

إن نشأة قطب ديمقراطي قادر على قيادة عملية الإصلاح القادمة والمتمثلة في فرض تطبيق جملة الإصلاحات المنجزة في الدستور الحالي الذي يضم كل ما يتطلبه النظام الديمقراطي، لكن هذه الإصلاحات بقيت حبرا على ورق تنتظر جهوزية قوى مدنية تفرض تفعيلها بدءا بعملية فك الارتباط بين الحزب ومؤسسات الدولة واسترداد فعالية مؤسسات المجتمع لتقوم بأدوارها الموكولة لها وفق قيم الدولة الحديثة. وفرض علوية القانون وصولا الى تطوير بعض فصوله التي لم تعد تستجيب لتطلعات مكونات الحركة الديمقراطية والاجتماعية والحقوقية.

أما مؤشرات قرب هذه اللحظة وشروطها الموضوعية فهي جاهزة منذ تخلي الدولة عن جميع أدوارها الاجتماعية لصالح قطاع خاص طفيلي فاقد لكل أدواره التاريخية ولا همّ له إلا الربح السريع والاستثمار في القطاعات الهشة كالمضاربة والعقارات وصناعة الترفيه، مستفيدا من هشاشة مؤسّسات الرقابة النيابية والإعلامية والشعبية، قطاع خاص عماده فئات حديثة العهد بالتملُّك والاستثمار، لا يهمه البحث عن التابع السياسي للبررة الاقتصاد، وحتى التعبيرة السياسية التي تحاول ان تكون لسان حال هذا القطاع الخاص ليست من صلبه، بل يقودها جماعات تعلموا وعاشوا ويتلقون معاشاتهم من المال العام!! قطاع خاص لا همّ له إلا الانقضاض على بقايا سلطان الدولة الاقتصادي، ووراثة أملاكها تحت عنوان الإصلاح الاقتصادي وإطلاق المبادرة الحرّة، واقتصاد السوق والمنافسة، مستقويا بزمن وحشيّة رأسمالية زحفت على الكون كلّه منذ العقد الأخير من القرن الماضي، وما برحت تزحف. ممّا أفقد الدولة قدرتها على امتصاص أزمات إجتماعية بدأت تفيض عن حدود إمكانات استيعابها وبداية توسع دائرة المتضررين من خيارات اقتصاد السوق. إذ تآكلت الطبقة الوسطى وتعززت صفوف المهمشين بجمهور من المتعلمين يفيض حماسا للدفاع عن حقه في العيش الكريم على حد عبارة المفكر عبد الإله بلقزيز.

وما إستشراس السلطة حاليا في تأبيد وضع السيطرة الذي أحكمته على مؤسسات المجتمع المدني من أحزاب وجمعيات ومنظمات جماهيرية، إلا لإدراكها أن مرحلة المشهد الديمقراطي المحكوم على وشك النهاية بفضل دخول قوى سياسية جديدة عصية على الوقوع في فخ السوبرنيطيقا الى ساحة النضال الديمقراطي، ومباشرتها لعملية تحرير مؤسسات المجتمع من الإلحاق الذي أفقدها وظائفها التي تحددها قيم الدولة الحديثة التي سمحت بنشأة فضاء عاما يحمي به المجتمع نفسه من سطوة الدولة ومؤسساتها على حد تعبير يورغن هابرماس.

وما ينقص الآن إلا اكتمال ملامح القطب الديمقراطي الذي سيمثل القوة السياسية التي تكمل النقص في الشروط البنيوية التي لا يمكن بأي حال تحويلها إلى شروط حتموية!!

وتشكل هذا القطب مازال يتعثر لتفاوت نضج أطياف الحركة الديمقراطية وتمثلها لطبيعة هذا القطب ووظائفه، فإذا كان تغليب المصالح الفئوية الضيقة أحد مظاهره والإقصاء الإيديولوجي أحد أمراضه، فإن العقلية اللاديمقراطية التي تلبست بالحرس القديم داخل أطياف الحركة الديمقراطية هو الداء الذي ينخرها ويمنعها من التطور والفعل بشكل أكثر فعالية.

كذلك يمكن القول إن النضال الديمقراطي الذي ظل طويلا حكرا على أطراف سياسية هشة شوهت العمل السياسي وحولته من علم الإنشغال بالشأن العام إلى وسيلة لقضاء مصالحها الشخصية. تدعم كثيرا منذ عقدين بجنوح أطراف سياسية كثيرة إلى ساحته، لكنها فعلها مازال مضطربا وتغلب عليه عقلية العمل ″الثوري″ الذي لم يتجاوز مرحلة الجملة الثورية، ولم تملك بعد تقنيات الدفاع والنضال من أجل مشروع جذري بأساليب نضال ديمقراطية، ويعود ذلك إلى أوبتها إلى النضال الديمقراطي دون القيام بمراجعات(قلت مراجعات ولم أقل تراجعات) فكرية عميقة تمكنها من إمتلاك تنظير ديمقراطي تتعرف بمقتضاه عن تاريخ نشأة الديمقراطية ومساراتها وشروطها وآلياتها. مما جعل هؤلاء النشطاء يتعاملون معها كعقيدة خلاصية مثلما كانوا أيام نضالهم الثوري الذي لم يتجاوز فقه الثورة، هل هي وطنية ديمقراطية أم اشتراكية، قطرية أم قومية؟ فدخلوا في حالة انسداد تاريخي لم يعرفوا سبيلا الى ترجمته في برنامج سياسي يتخذ مما يجب أن يكون بوصلة ومن الممكن في زمانه ومكانه مهمات ميدانية تركيمية مادامت الشعوب لا تطرح إلا القضايا التي تقدر على حلها، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها!!

الثوريون والنضال الديمقراطي

إن الراديكاليين الذين يطعنون في فعالية هذا الأسلوب النضالي بإعتباره نهجا إصلاحيا لا يرقى إلى طرح مهام النضال الاجتماعي والسياسي، وأن أقصى ما يطمح إليه أصحابه هو المشاركة في الحكم على قاعدة إصلاحية برجوازية ليبرالية. وأن التغيير الحقيقي غير ممكن في غياب الأداة السياسية الثورية للطبقة العاملة التي بإمكانها قيادتها وتمثل مصالحها ومصالح حلفائها من فئات الشعب المفقرة والمستغلة. لا ينظرون حولهم، إلى الحركات الثورية في أمريكا اللاتينية التي يعتبر العنف الثوري جزءا من تراثها النضالي، كيف جنحت في ظروف معينة إلى إستراتيجية النضال الديمقراطي دفاعا عن الراية الإشتراكية وعن نموذج دولة الرعاية المسؤولة عن توظيف مواردها المادية والبشرية لتحقيق التنمية اللازمة ليكون الإنسان إنسانا.

أما على الجبهة الفكرية، فالمجتهدون فتحوا باب النقاش مجددا حول أساليب الإنتقال نحو الإشتراكية وشروطها الذاتية والموضوعية، نظرا لأن بناء الإشتراكية ما عاد مادة نظرية فقط بل حصيلة تجربة فشلت. ويفتحون من جديد ملف الدولة الشمولية وإعتباره من تبعات شيوعية الحرب وإستخدام العنف العسكري في فترة الثورة المضادة والتدخل الأجنبي، مما تسبب في تسرب تقاليد المرحلة القيصرية البيروقراطية مما أدى إلى تأويل ديكتاتورية البروليتاريا تأويلا أفقدها مضمونها التاريخي المحدد. وتجري محاولات إجتهادية لإعادة الاعتبار للعلاقة بين الديمقراطية والاشتراكية، فمثلما العدالة الإجتماعية غير ممكنة دون ديمقراطية، فإن الديمقراطية السياسية لا تتحقق فعلاً إلا مع ضمان العدالة الإجتماعية (10).

أما بالنسبة لبعض أنصار الثورة العربية ممن يحتكرون صفة الراديكالية، ويتهمون رفاق دربهم ممّن جنحوا إلى إستراتيجية النضال الديمقراطي بالإنحراف نحو الخط الإقليمي منطلقا والنهج الإصلاحي أسلوبا، مؤكدين أن الوحدة طريق للديمقراطية وليس العكس، وأن الأولوية في النضال لمشاكل التخلف الإستعمار والتجزئة والإستغلال وما معركة الديمقراطية سوى مشكلة تنمية لا تحل إلا ضمن حلّ ثالوث التخلف! أو أنصار النهج البسماركي ممّن مازالوا يتغنون بتجارب الضم القسري رغم كارثيته وفقدانه لصلاحياته التاريخية منذ قرن من الزمان!!

نقول لهم يا رفاق الدرب إن من جنحوا للنضال الديمقراطي لم يفقدوا لياقتهم الثورية ولم يصابوا باليبوسة كما تعتقدون!! فالثوريون لا يستمدون صفتهم الثورية من إتيان العنف الثوري أو التغني به، وإنما من عدم تهيبهم له إذا فرض عليهم، ألم يكن النبي محمد (ص) في قمة ثوريته وهو يأمر صحابته بالهجرة من مكة سرا؟ ألم يكن المهاتما غاندي في قمة ثوريته وهو يمنع أنصاره من إستعمال العنف؟ ونحيطهم علما أنه أمام تعسّر إنجاز المشروع القومي وفقدانه للكثير من هيبته جرّاء الأساليب التسلطية التي إعتمدها بعض القوميين العرب طيلة النصف الثاني من القرن العشرين، أجرى كبار المفكرين القوميين مراجعات فكرية عميقة (11)، دعوا فيها أنصار هذا المشروع إلى ضرورة الالتزام بما يجب أن يكون بوصلة وهدفا، وانجاز الممكن في زمانه ومكانه. وأن يتحمّلوا مسؤولياتهم في الإسهام في معركة التحول الديمقراطي في أقطارهم، والدفاع عن نموذج دولة الرعاية لتقف الجماهير العربية بنفسها على حقيقة عجز الدولة الإقليمية عن إشباع حاجاتها أيّا كانت العلاقات الاجتماعية التي تحكمها. ساعتها فقط تتخلص الوحدة العربية من النهج الشعبوي - الذي يتجنب أصحابه الخوض في القضايا التي تمس معاناة المواطن ويقتصر النضال القومي عندهم على ترديد الشعارات المتمسكة بوحدة الأمة - وتتحول إلى مطلب جماهيري يستند إلى حامل اجتماعي يدافع عنه ويناضل من أجل تحقيقه باعتباره يمثل مصالحه المادية والثقافية والسيادية. وإذا كان فضل القوميين العرب خلال القرن العشرين أنهم رفعوا من منسوب الحساسية تجاه الحكم الأجنبي، فليكن فضل القوميين اليوم الترفيع في منسوب الحساسية تجاه تسلط الحكم المحلي، لأن المواطنة هي صمّام أمان الوطنية والسيادة القومية في هذا القرن الجديد!!

إن الكفاح الديمقراطي هو أحد أساليب الثوريين في إنجاز وتحقيق مطالبهم، ولا علاقة له بالنهج الإصلاحي الذي ركب صهوته الكثير من رفاق الأمس ممّن لا يتجاوز سقف طموحاتهم المشاركة في الحكم وتنقيح فصل هنا وقانون هناك وإستعدادهم إلى عقد الصفقات مع الأنظمة الحاكمة مقابل الإلتزام بالبقاء معارضة أبدية تمنع نفسها حتى من التفكير بالوصول إلى الحكم والإكتفاء بهامش نقدي على هامش الحياة السياسية، وإنتظار إصلاحات يتنعّم بها الحكام، فيسارعون إلى مباركتها ممّا يفقدهم بالتدريج صفتهم الحزبية والسياسية !!

وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين″.

*إهداء إلى الطالب حفناوي بن عثمان ورفاقه سجناء انتفاضة الحوض المنجمي عهد وفاء والتزام.

** باحث في الأنثربولوجيا الثقافية والسياسية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق