الأحد، 18 أكتوبر 2009

د. اسامة الغزالي حرب

ليس من الغريب أن الغالبية العظمى من المصريين «أو ربما بتعبير أدق: النخبة المصرية المتابعة للأوضاع السياسية» تنشغل الآن أكثر ما تنشغل بمستقبل النظام السياسى الراهن فى مصر، لأكثر من سبب شديد الوضوح:

فالأوضاع العامة وصلت إلى حالة من التدهور تثير الفزع بل اليأس، حتى مع تحقيق بعض «الإنجازات» هنا أو هناك، فالتجديد المتميز الذى تم فى مطار القاهرة، وإنشاء طرق حول القاهرة، مثلاً، لا يمكن أن يغطى على سلسلة طويلة من الكوارث القومية الفادحة، بدءا من التدنى المخيف للتعليم، وحتى العجز عن إزالة القمامة من شوارع العاصمة!

والرئيس حسنى مبارك سوف يبلغ فى مايو القادم الثانية والثمانين من عمره، وبالرغم من تمتعه بالصحة واللياقة البدنية العالية، إلا أنه من المنطقى تماماً أن يثور التفكير فيمن سوف يخلفه، خاصة أن الاحتمال الأغلب «بل الاحتمال الوحيد فى تقديرى» هو أن الرئيس سوف يرشح نفسه فى انتخابات عام 2011 لفترة رئاسية سادسة.

وسواء حدث مكروه - لا قدر الله - قبل انتهاء ولاية الرئيس، أو لم يرشح نفسه «وهو احتمال أستبعده كما ذكرت»، فإننا سوف نكون إزاء حدث فريد فى تاريخ النظام الجمهورى - السلطوى الذى تمخضت عنه ثورة يوليو، فلم يحدث أن استمر رئيس «عبدالناصر أو السادات» مثل تلك المدة الطويلة، ولم يحدث أن كانت الخلافة غير محددة فى شخص بعينه.

يعنى هذا بعبارة أخرى، أنه لأول مرة منذ أكثر من نصف قرن «؟» نجد أنفسنا - نحن الشعب المصرى - مطالبين باختيار من يحكمنا! بل هى فى الواقع فرصة ذهبية لإعادة صياغة النظام السياسى المصرى لتحويله إلى نظام جمهورى ديمقراطى حقيقى، إنها فرصة كان يمكن أن تسجل للرئيس مبارك إنجازاً تاريخياً لا يمكن إنكاره، أياً كانت مثالب العقود الثلاثة الماضية.

غير أننا - للأسف الشديد- بدلا من أن ننشغل ببناء نظام ديمقراطى عصرى، يليق بمصر وطال انتظارها له، نجد أنفسنا مشغولين بقضية سخيفة ومهينة لنا جميعاً، أى: مؤامرة توريث حكم مصر لنجل الرئيس، السيد جمال مبارك!! هى مؤامرة لأن أغلب المشاركين فيها ينكرونها، فى حين ينهمكون سراً فى حبكها وتنفيذها! وهي سخيفة ومهينة لأنها تنحط بنا إلى مستوى بلاد ونظم، كانت مصر تسبقها حضارياً وثقافياً وسياسياً بمراحل طويلة.

وفى واقع الأمر، استدرجت النخبة السياسية - الثقافة المصرية، فى معظمها للانغماس فى مناقشة قضية «التوريث»! على حساب القضايا السياسية الأساسية الأهم والأشمل، ويكفى هنا الإشارة إلى سلسلة المقالات الخمسة الممتازة للدكتور حسن نافعة فى «المصرى اليوم» (6/9 إلى 4/10).

إن جوهر القضية - وأنا هنا أشدد على ذلك بكل قوة - هو بناء نظام سياسى ديمقراطى حقيقى فى مصر على أنقاض نظام سياسى سلطوى فاسد يعانى اليوم مظاهر عديدة للتفكك والشيخوخة.

إن التوريث كان - ولايزال - هو الوسيلة الوحيدة التى أفرزها هذا النظام للخلافة السياسية، سواء كانت توريثاً «سياسياً» (إذا جاز هذا التعبير» - أى من عبدالناصر إلى السادات، ثم من السادات إلى مبارك، أو توريثاً عائلياً، وفى كل الحالات تجرى استفتاءات (أو انتخابات) صورية لإضفاء شرعية مصطنعة على نقل السلطة، ولذلك فحتى لو عين الرئيس مبارك نائباً له اليوم ليؤول إليه حكم مصر من بعده فإن ذلك لن يكون فى جوهره أفضل من توريث الابن، إنه استمرار للنظام القديم الذى يتعين إلغاؤه إنقاذاً لمصر ولشعب مصر، حتى ولو حمل نوعاً من «الاستقرار».

ولذلك فإن الفاحصين لقضية مصر الراهنة من منظور «التوريث» وقعوا فى فخ الانشغال عن جوهر القضية، فاقترحوا مثلاً - لإجهاض مشروع التوريث - التنسيق بين القوى الوطنية لخوض الانتخابات التشريعية المقبلة، أو الاتفاق على مرشح مستقل للرئاسة... إلخ، وكأن فى مصر انتخابات تشريعية ورئاسية حقيقية «!!».

وبعبارة أخرى فإن مثل هذه «التكتيكات» لن تؤدى فى النهاية إلا إلى إضفاء «مشروعية» على عملية انتخابية لن تكون أبداً - وكما جرى الحال دائماً - نزيهة أو جادة.

المطلوب الآن - إذن - مرة ثانية وثالثة ورابعة هو إقامة نظام سياسى ديمقراطى يكون بديلاً للنظام القائم، غير أن إنجاز هذا الهدف ليس بالأمر السهل، ويستحق أكبر قدر من الاهتمام والتوافق بين القوى الوطنية المصرية، ويستلزم إبداعاً فكرياً وسياسياً، وفوق هذا كله، من المهم والضرورى أن يتم ذلك الانتقال على نحو سلمى آمن، لأن مصر - بالقطع - محملة بكثير من القنابل الموقوتة التى صنعتها الأوضاع الخاطئة، سواء كانت قنابل اجتماعية أو طائفية... إلخ.

فى هذا السياق، فإننى أطرح هنا للنقاش مبادرة على القوى الوطنية المصرية كافة، بلا استثناء التى تستشعر عظم التحديات المطروحة على مصر، والمخاطر المحدقة بها وتولى اهتماماً جاداً لقضية البناء السلمى والآمن لنظام ديمقراطى حقيقى، هذه المبادرة التى أطرحها تأثرت فى صياغتها بالتجربة الإسبانية التى شهدت تحولاً سلمياً ومدروساً إلى الحكم الديمقراطى بعد ستة وثلاثين عاماً من الحكم الديكتاتورى للجنرال فرانكو، وكان فرانكو نفسه هو من خضع، فى آخر أعوام حكمه، لضغوط التحول نحو الديمقراطية بل أسهم فى هندسة ذلك التحول.

هذه المبادرة تنطلق من عدد من المسلمات، وتستهدف تحقيق عدد من المهام:

فأولاً، علينا أن ننطلق من حقيقة أنه آن الأوان - بعد أن وصلت الأوضاع فى مصر إلى القاع - للتخطيط المسؤول لإحداث التحول نحو نظام ديمقراطى كفء وفاعل، وأعتقد أن هناك عناصر حتى فى الحزب الوطنى نفسه (خاصة تلك البعيدة عن مشروع التوريث) يمكن أن تتفق على هذا الهدف مع القوى السياسية الأخرى كافة.

وعلينا - ثانياً - الإقرار بحقيقة أن نزول أى مرشحين للمعارضة لمنصب الرئاسة (سواء كان مرشحاً واحداً متفقاً عليه، أو مرشحين متعددين) لن يكون سوى مشاركة فى تمثيلية هزلية، لا تقنع بجديتها أحداً، لا فى مصر، ولا فى الخارج.

فى ضوء ذلك، فإننى أدعو قوى المعارضة جميعها للإحجام عن تقديم أى مرشحين للرئاسة، معلنة قبولها بالأمر الواقع الفعلى، وهو أن الرئيس مبارك سوف يستمر رئيساً لمصر لمدى الحياة، فى مقابل أن تتشكل على الفور هيئة تأسيسية أو مؤتمر وطنى شامل، يضم ممثلى القوى السياسية الحية فى مصر، بلا استثناء، يتولى وضع مخطط تفصيلى لفترة ما بعد مبارك، يتضمن أهدافاً محددة، على رأسها:

أولاً: وضع دستور جديد ديمقراطى (وهناك بالفعل مشروعات جاهزة تقريباً) مع إعادة صياغة البنية الأساسية للانتخابات. ثانياً: وضع تصور لبناء جديد للمؤسسات السياسية فى مصر فى إطار نظام ديمقراطى يضمن فاعليتها واستقلالها، خاصة السلطة القضائية، والسلطة التشريعية، فضلاً عن إطلاق حرية تكوين الأحزاب السياسية ثالثاً: النظر في وضع وجدوى المؤسسات المعوقة للعمل السياسى والديمقراطى كافة، وعلى رأسها جهاز مباحث أمن الدولة. رابعاً: إعادة النظر فى أوضاع الصحافة الحكومية، والإعلام الحكومى.. بهدف تحقيق استقلاليتها وفاعليتها وكفايتها. خامساً: وضع الإطار القانونى والإجرائى اللازم لإعادة الحرية والفاعلية للنقابات وللجمعيات الأهلية، ومؤسسات المجتمع المدنى كافة. سادساً: اعتماد فلسفة جديدة وجريئة للامركزية والحكم المحلى، تضمن إصلاح الأوضاع فى محافظات مصر وفق ظروفها وأوضاعها الخاصة، وتكفل التخفيف من المركزية المفرطة التى انحازت للعاصمة (المترهلة والمكتظة) على حساب أقاليم مصر كلها.

إن تنفيذ هذا السيناريو سوف يؤدى إلى تحقيق عدد من النتائج المهمة:

أولاً: إيجاد مخطط واضح لدى المصريين يخفف حالة القلق الراهنة بشأن المستقبل، ويعطيهم أملاً فى وجود ضوء فى نهاية النفق.

ثانياً: الإجهاض التلقائى لمشروع التوريث، باعتبار أن هذا السيناريو سوف يتضمن - من ناحية - استمرار الرئيس مبارك فى السلطة مدى حياته، ثم إنه يخطط - من ناحية أخرى - لتغيير ديمقراطى بعد مبارك لا مكان فيه - بداهة - لفكرة التوريث المناقضة بطبيعتها للديمقراطية.

ثالثاً: تفريغ انتخابات مجلس الشعب القادمة من عواقب الصراعات الداخلية فى الحزب الوطنى، ومن التأثيرات السلبية لمناورات التوريث، فضلاً عن سيادة مناخ يؤمل أن يسود فيه قدر من النزاهة والحياد.

رابعاً: توفير فرصة جادة للقوى الوطنية للبحث، والتوافق، حول القضايا الأكثر حيوية وأهمية للإصلاح السياسى، وفق ما جرت الإشارة إليه.

خامساً: توفير إمكانية لحدوث التحول فى النظام السياسى بشكل سلمى آمن - بقدر الإمكان - وعلى نحو يؤمل أن يجنب مصر ويلات صراعات خطيرة تطل برأسها.

سادساً: إتاحة فرصة للقوى الحية فى مصر، ولكوادرها وخبرائها وعلمائها، للتخطيط الجاد لإصلاح الأوضاع المتردية فى كثير من المرافق، وعلى رأسها بالقطع مرفق التعليم العام والعالى.

ذلك اجتهاد ودعوة للتفكير فى مستقبل مصرنا العزيزة المنهكة! قد تخطئ وقد تصيب.. ولكن علينا ألا نقف أبداً جامدين أو صامتين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق