الخميس، 18 فبراير 2010

ركام لا نظام


عبد الحليم قنديل

انتهى المشهد المصري إلى 'بواقي فساتين' على طريقة ترزي السيدات الذي يرمي 'بواقي القص' بالأحمر والأخضر والأصفر والأسود في سلة المهملات.
انتهت مصر إلى موسم البواقي والفضلات، وإلى أوكازيون تفكيك شامل، وتحول جهاز الدولة المتضخم إلى قزم عاجز تائه ذاهل في مواجهة أبسط الأزمات.
فقد تلاشت سريعا 'هوجة' الفرح بالفوز الكروي في بطولة الأمم الأفريقية، وحلت أزمة أنابيب 'البوتاغاز'، وبدا كأننا في موسم كوارث وحرائق لا تنتهي، ما إن يخفت أوارها هنا، إلا وتشتعل وتدهم هناك، فقد بدت الدولة المصرية آخر من يعلم في كارثة السيول والعواصف،


والتي ضربت إلى شرق سيناء وإلى الجنوب في أسوان، بدا المشهد عبثيا إلى أبعد حد، فقد ضربت السيول والعواصف نفسها دولا عربية شقيقة وقريبة بالجغرافيا، وبدت دولة صغيرة كالأردن، ودولة أصغر كلبنان، بدت الأردن ولبنان في أحوال أفضل كثيرا، فالتحرك يجري بسرعة، والإجراءات نظامية وغاية في الكفاءة، بينما انتهت الدولة الأكبر في مصر إلى 'حيص بيص'، رغم أنها الدولة التي يبلغ عمرها آلاف السنين، والتي تعرف خرائط ومخرات السيول منذ أيام الفراعنة، وبدت القصة مثيرة للسخرية، وإلى حد أن وزير الري المصري أعلن عن معجزة عاجزة، وهي أن وزارته ـ ومعاهدها العلمية ـ بصدد إعداد أول أطلس مصري لمخرات السيول، ياالله، إلى هذا الحد بلغت البلاهة، وتضاعف داء النسيان، واستحكم 'الزهايمر'، فنحن بصدد دولة ودعت عقلها من زمن، وأعطت تراخيص وتصاريح بناء في مخرات السيول المعروفة من أول الزمن المصري، بل وبنت الدولة نفسها منشآت ضخمة في مناطق الخطر ذاتها، وعلى طريقة المدينة الرياضية الأولمبية التي بنوها في مخرات السيول بالقرب من مدينة العريش، والتي تكلفت مئة مليون جنيه مصري، والأطرف : أن مسؤولا قال أنه قد جرى إعداد دراسات مكثفة قبل البناء، وربما لا تفوق هذه القصة في عبثيتها سوى قصة التقسيم الإداري لمحافظة القاهرة قبل شهور، وقتها تقرر تحويل محافظة القاهرة إلى محافظتين، واحدة باسم القاهرة، والأخرى باسم حلوان، ووقتها قال وزير الإسكان أن التقسيم جرى بموجب دراسات استغرقت عشر سنوات، وتكلفت عشرات الملايين، وكأن الذين أجروا الدراسات تخرجوا حديثا من فصول محو الأمية، فلم يلحظ الدارسون العظام، وأسماؤهم مسبوقة بحروف الألف ودال الدكترة، لم يلحظ هؤلاء ـ مثلا ـ أن الدستور ينص على أن مبنى المحكمة الدستورية العليا يقع في القاهرة العاصمة، وصدر قرار التقسيم، فإذا بمبنى المحكمة الدستورية العليا يقع في محافظة حلوان على الجانب الآخر من النيل، ولم ينتبه الرئيس ومستشاروه ـ هم الآخرون ـ إلى الشيء البديهي ذاته، وكان لا بد من الترقيع، وصدر قرار جمهوري آخر يضم قطعة أرض من محافظة حلوان الجديدة ـ حول مبنى المحكمة الدستورية ـ إلى محافظة القاهرة، ثم صدرت قرارات رئاسية أخرى بترقيعات في التقسيم الذي صدر به القرار المدروس جيدا، ثم بدت حوادث الخبل والعجز كأنها بلا آخر، فقد استغرق إطفاء حريق محدود في عمارة سكنية مدة يومين، واختنق المرور في القاهرة تماما، رغم أن العمارة المنكوبة تقع على بعد أمتار من المقر الرئيسي لقوات شرطة الإطفاء بميدان العتبة، واستغرق رفع صخرة الدويقة شهورا، وجرى اللجوء إلى استدعاء الجيش في ازمات بدت عابرة جدا، فقد كلفوا الجيش بإطفاء حريق في حي الشرابية شمال القاهرة، واستدعوا طائرات الجيش لإطفاء حريق في مجلس الشورى، وبدا المشهد مثيرا للأسى، فقد كانت الطائرات تقذف مياه الإطفاء في الاتجاه العكسي بالضبط، وهو ما قد يذكرك بقرار استدعاء الجيش لحل أزمة توزيع رغيف الخبز، وبعد أن بدا الجهاز الإداري والأمني الخدمي للدولة في حال من العجز المتضخم، ورغم حجمه المهول المفرط في السمنة، والذي يصل تعداده إلى ما يقارب الثمانية ملايين موظف.
وقد تسأل: ما الذي جرى بالضبط؟، وما الذي جعل جهاز الدولة المصرية غاية في انحطاط الكفاءة ؟، المأساة مركبة، وفيها مظاهر تحلل تخزق العين، وأولها مرتبط بطبيعة نظام الحكم، فلسنا بصدد مجرد حكم ديكتاتوري، وإنما بصدد نظام انحطاط مملوكي، فقد تعني الديكتاتورية شيئا منضبطا، قد تعني أن نخبة حكم قررت أن تمضي الأمور برؤيتها هي، وأن تقصي آراء الآخرين، أو أن تطاردهم وتعتقلهم وتعذبهم، وتكبت الحريات العامة، وكل ذلك موجود في مصر، لكنه لا يكفي للتفسير، فليس من ثمة نخبة حكم على قدر من التماسك، أو تتبنى رؤية أو أيدلولوجيا ما، وقد لا تصح نسبة نظام الحكم الحالي إلى يمين أو إلى يسار أو إلى وسط، فهو حكم بلا رؤية حتى لو كانت خاطئة، والأيديولوجيا الضمنية الوحيدة للحكم الحالي هي النهب العام، والمستند إلى عصا الكبت العام، وربما يفسر ذلك ما تلحظه من ملامحه الأكثر تضخما، فثمة مليارات يجري شفطها إلى أعلى، ومن حول 'بيت السلطان' بالذات، وثمة جهاز أمن داخلي يصل إلى ما يقارب المليوني عسكري، والمجرى الفعلي للحوادث هو السرقة بالإكراه، تماما كالذي يضع يده في جيبك، ويشهر في وجهك مطواة قرن غزال، والسرقة العامة كأيديولوجيا ضمنية لا تدفع إلى التماسك، بل إلى تواطؤ مخاتل كالذي يجري بين رجال العصابات، فهم في الظاهر عصبة واحدة، وفي الباطن سعي متصل من كل طرف إلى قتل الأخر وسرقة نفوذه، فالسرقة كأيديولوجيا تقود إلى التقاتل الداخلي لا إلى التماسك، والنتيجة : أن سابت مفاصل جهاز الدولة، وتحولت الخدمة العامة إلى خدمة خاصة جدا، وبالتوازي مع خصخصة الاقتصاد وتجريف الثروات، جرت 'خصخصة مجازية' للوظائف الكبرى، أي أن كل موظف كبير حول وظيفته إلى ماكينة بنك تتدفق بالنقود، سرى التحول بالتفكيك إلى الجهاز الأمني الخدمي، وزحف قبلها إلى الجهاز الإداري المتضخم، والنتيجة : كسر العمود الفقري لجهاز الدولة، وتحوله إلى ما يشبه أميبا مفلطحة تطفو في مستنقعات، ولا تقدر على الوقوف أو المشي، وتفقد حاسة الانتباه، وتنام في العسل الأسود.
ومعنى ما جرى فادح، وهو أننا لسنا بصدد نظام، بل بصدد ركام، بصدد مبنى هائل تفككت أعمدته، وتهدم، وتكوم ترابه في الطريق العام، ولم تعد تسمع سوى صوت ارتطام لحطام، فقد انكسر العمود الفقري للدولة المصرية، وفقدت حساسية جهازها العصبي المركزي، وربما لم يعد صاحيا فيها غير عصا أمنية تحرس 'بيت الرئاسة '، وتراجع معنى الدولة إلى مبنى العصا الأمنية لا غير، فانتهينا إلى وضع النبي سليمان ولكن بلا قداسة، ففي الكتب المقدسة تقرأ التالي، وهي أن أحدا من المكلفين بخدمة النبي سليمان لم يلحظ موته، وظلوا يدورون حوله كالنحل الشغال، وعلى ظن أنه يراقبهم، بينما كان سليمان النبي قد مات من زمن، لكن أحدا لم يلحظ، ولسبب بسيط، وهو أنه مات متكئا على عصا، ولم يعرف أحد بموته إلا حين نخر النمل العصا، وهو الوضع ذاته الذي انتهى له رأس النظام المصري، فهو مجرد رأس معلقة على خازوق أو عصا أمنية، وانتهى إلى موت سياسي ينتظر مراسم الدفن المتأخرة، وبانتظار النمل الذي ينخر العصا، أضف إلى ذلك أن التفكيك في جهاز الدولة سري أيضا إلى الرأس المعلقة، فلم نعد بصدد رئيس أو ملك أو فرعون واحد، وإنما بصدد شركة عائلية ثلاثية، فيها ثلاثة ملوك أو ثلاثة رؤساء، الرئيس الأب والرئيسة الأم والرئيس الابن، وهو ما يدركه عامة المصريين الآن قبل خواصهم، ويتصرفون على أساسه، فشكاوى المواطنين التي تقدم إلى قصر الرئاسة في عابدين تلفت النظر، كل مواطن يشكو يكتب شكواه من ثلاث نسخ، واحدة للأب حسني مبارك، وأخرى للابن جمال مبارك، وثالثة للأم سوزان مبارك، فلا أحد يعرف بالضبط من يحكم مصر الان؟ إنه التفكيك في الرأس بعد تحلل الجسد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق