الخميس، 18 فبراير 2010

الوحدة.. فعل تاريخي غابت دولته أم وجدت ..


*إن إنجاز وحدة عام 58 بين سوريا ومصر، كان مطلبا شعبيا.
* كانت الوحدة حصيلة انتصارات وطنية وقومية عززت مكانة زعامة الثورة المصرية.
*الشعب العربي؛ هو واحد ووحدته معلنة لكن دولته غائبة..
*دولة قوى الشعب المنتج (دولة العرب) تختلف عن ما ذهب إليه الغرب في إنشاء دوله الوطنية أو القومية ومهامها.
*إن توهّج دولة الوحدة، لم ينقذها من العثرات.
سليم نقولا محسن
دمشق
*غالبا ما يتناول مفهوم الوحدة العربية بشطحات رومانسية زاهية الملامح، ليست في حقيقتها سوى تهويمات هاربة من واقع عربي متردي يُستبدل بالمتخيل ..وليس الأمر في جوهره يعيب مَن يأخذ به، سوى أن يتحول هذا المتخيل إلى الاعتقاد اليقيني بأن لا أصل له في التاريخ الماضوي أو المستقبل القريب أو البعيد، أو أن يتقول أصحاب الواقعية بأن هذه الوحدة إن حدثت يوما فإنما كانت محكومة بشروط الزمان وتحولات ظروف المكان ولا عودة إليها، لكن طرح موضوع وحدة العرب على هذا النحو يخالف جوهره، فالشعوب العربية على أرض العرب التاريخية ذات خصائص واحدة، وهي شعب واحد، وإن استدلال المخالفين لمقولة الوحدة بما هو واقع وقائم بفعل القهر الظرفي (التجزئة القطرية) المحكوم بمصالح القوى العالمية على ما يخالف هو خطأ وتبعا إعطاء الصحة لما يبنى عليه من تصور مغلوط ومن ثم إباحة هذا التصور لنفسه وروافده التعميم وما يصدر عنه من تطاول أكان على الماضي القريب أو البعيد أو على رسومات المستقبل. فالمنطق يقضي بإعادة الوحدة للمُجزأ ليستعيد الكل عالمه ووجوده وتمامه وبالتالي حياته، لا أن نجعل الجزء هو الكل والمنقوص هو الكامل التام.
فالوحدة العربية فعل تاريخي جماعي سعت على مراكمته شعوب المنطقة، والعروبة هي الهوية الوحيدة لتواجد تنوع مكوناتها، و هي بصفتها هذه تفارق الجماعة إلى المقدس، لذا لا علاقة لها (العروبة)بالرغبات الفردية الصادرة في الإنكار أو الرفض، وبما أن العروبة المعنية تختص بجسم واحد هو شعب محدد له خصائصه وأن حالة أي شعب غادر مرحلة التكوين تقتضي إنشاء دولة، لذا فمن الطبيعي أن يبحث الشعب عن المفقود أي الدولة الواحدة، ولا يعني هذا أن عدم وجود دولة الوحدة هو انتفاء لوجود الشعب الواحد، بل أن ما يبدو على أرض الواقع وبالنسبة لحالة الشعب العربي هو العكس، إذ رغم عدم وجود دولته الواحدة فإنه يؤكد في كل مظاهره الحياتية وحدته، فهو واحد ووحدته معلنة لكن دولته غائبة..
كما أن قيام هذه الدولة لا تقتضي نهوض حوامل اجتماعية تسعى إلى تحقيقها، كما يذهب إليه ويروجه بعض الناقلين عن الفكر الغربي ، فهي ترتبط هنا بحالة مغادرة الشعب مرحلة التكوين الاجتماعي وهذا فعل تاريخي قد تحقق، ولم يكن بالإمكان في مرحلة التكوين السياسي العربي الحديث أن تسنح الظروف لتواجد طبقات اقتصادية منظورة(إقطاعية سلطانية أو رأسمالية) كان يمكن لها أن تعمل لتحقيق إنجاز دولة الوحدة، فالشعب العربي لم يزل في تكوينه المجتمعي على حالة إنتاج الاقتصاد البدائي، وهذا في مسعاه إلى دولة الوحدة إنما كان يسعى ولم يزل إلى حماية وجوده وهو من أبسط مهام الدولة، وإن ما كان قد ظهر ويظهر من فقاعات اقتصادية فردية أو ما شابه هنا وهناك لا يمكن تعميمها على حالة المجتمع، كما لا يمكن للنظرة الجدية لها أن تحمّلها الطابع الطبقي ومفهومه، لذا فإن إنشاء دولة قوى الشعب المنتج (دولة العرب) يختلف عن ما ذهب إليه الغرب في إنشائه لدوله الوطنية أو القومية ومهامها، أكان في المرحلة الإقطاعية الملكية من أجل التوسع وضم الأراضي، أو في مرحلة سيادة الطبقة البورجوازية.
وعليه فإن ما روج وقيل من وجهات نظر تشهيرية مقابلة عن الوحدة السورية المصرية، إنما يجانب الحقيقة، ويميل إلى أسطرة طبائع الفرقة والاختلاف التي يتقول بها بخبث عالم الغرب عن العرب، لأن الوحدة بالنسبة للشعب العربي فعل تاريخي متحقق موجود ورؤية حضارية غابت دولته أم وجدت، وأن دولة الوحدة السورية المصرية إنما تندرج أساسا في فعل هذا الحراك العربي، و من هذا المفهوم تبقى هذه الدولة رمزا لدولة وحدة العرب دامت أو زالت..
*لكن لم يجرؤ أحد على محاكمة الحلم العربي عقب واقعة انفصال 28 أيلول 61 في دمشق، أو عقب حادثة الكمين العالمي للجيوش العربية في 5 حزيران 67. إلا أن عبد الناصر الأمل قد قتل من داء كان قد صدّره الغرب لإحباط العرب وقهرهم، في 28 أيلول 1970، أثر ختام محاولة لنحر المقاومة الفلسطينية وقضيتها وإقصائها عن الأردن بذات التاريخ. ولعل حرارة معركة الوطن في العراق قد كشفت للشعوب العربية العلاقة بين ما مضى من أحداث وما لحق بها، وأسباب التحالف العالمي الذي عقد لإسقاط المشروع القومي العربي في العراق عام 91، وضرب الحصار على شعبه والعدوان عليه آذار 2003، ومهزلة مطاردة من بقي من قادة ورموز هذا المشروع - بأمر أمريكي- لقتلهم ومحاكمتهم بجرائم الدفاع عن شرف شعب العرب وتهمة العمل على إنهاضه فوق أرض العراق.
على الرغم من أهمية النضال العربي القومي، الذي اتخذ نهجه بعدا بطوليا بالمعنى الأخلاقي التحريري داخل ارث المجتمع، منذ زمن الإلغاء الطوراني للعروبة واتباع سياسة التتريك عام 1908، ولاحقا في عهد الاستعمار ونفوذه الغربي عقب الحرب الأولى عام 1919، دفاعا عن العروبة كانتماء مصيري لإقامة دولة العرب. إلا أن تحرك العرب النضالي هذا لم يكن كافيا لتحقيق الطموح العربي. فلقد أرجعت أبحاث تاريخية إلى أن الانفصال عن العثمانيين، ومن ثم ظهور عوامل التجزئة السياسية في الوطن العربي، إنما يعود إلى الأطماع الأوربية التي عمدت على تفكيك الإمبراطورية العثمانية، واتفاقها فيما بينها، توافقا مع نوازع السيطرة العارية لدولها ولمصالحها آنذاك، على انتزاع واقتسام المناطق العربية التابعة للسلطنة.
وقد ترتب على ذلك نشوء كيانات سياسية مشوهة، تقودها نخب متغربة، يحاكي مسارها الاقتصادي والدولتي النموذج الأوروبي ويرتبط به. كما أدى انهيار نظام الدولة العثمانية القديم إلى انسحاب -كان ملحوظا- لفاعلية أصحاب الأراضي والنخب المتنورة ذات المنشأ الوطني (المديني) والطبقة السائدة السابقة عامة، من النشاط الاقتصادي المجتمعي لتلك الكيانات الجديدة.
ولا شك بأن إنجاز وحدة عام 58 بين سوريا ومصر، وان كان مطلبا ناضلت القوى الشعبية لتحقيقه، وجاء حصيلة انتصارات وطنية وقومية لزعامة الثورة المصرية، كانت قد أكسبتها الثقة لدى شعوب المنطقة؛ إنما كان أيضا مؤشرا على بدء انزياح النظام السياسي الاقتصادي العالمي القديم لبريطانيا وفرنسا لصالح قوى أخرى واصلت صعودها عقب الحرب الثانية، تمثلت في الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، ولاحقا على هامش صراعهما دول عدم الانحياز، وما تبع ذلك من متغيرات لعبت في إعادة تشكيل خارطة النفوذ السياسية للمنطقة والعالم. كما أن الانفصال الذي حدث في سوريا أواخر أيلول عام 1961، بالرغم مما قيل في أسبابه الداخلية، واختزاله بأخطاء ونهج القيادات آنذاك؛ إنما كان هو أيضا يندرج في إطار لعبة المصالح العالمية الجديدة، وتوجهات منظوماتها الاقتصادية والسياسية لإلحاق المناطق المستضعفة في العالم في إطار نفوذها، بما يتطلب من إقصاء قياداتها الوطنية، وتأهيل قيادات أخرى مرتبطة، تتلاءم مع مقتضيات الوضع العالمي الصائر الجديد ومهامه المستقبلية– اتخذ تعابيرا ملطّفة (السلام العالمي)- تتجه إلى قبول الظروف المُهيأة وأيضا إلى المشاركة بإعدادها وتنفيذها، كما كانت قائمة عليه حالة الأحداث والاختلاطات السياسية التي سبقت نكسة عام 67 وأدت إليها، بغرض توسيع الكيان الصهيوني وتقوية نفوذه على حساب العرب أراض وشعوب ودول، وإبقاء فلسطين منطقة متفجرة كمقدمات من أجل مهام تدميرية عالمية لاحقة: احتلال العراق ورعاية تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير.
وهكذا فان محاولة لقراءة العلاقات الاقتصادية المجتمعية السورية التي عايشت إقامة الوحدة، ومن ثم الإشكالية التي صاحبت أسباب الانفصال قد تكون ذات جدوى لإلقاء الضوء على ما نحن فيه من عثرات.
قبل أن يلوح الاستقلال في سوريا عام 1945، كانت قد شرعت شرائح مهمّشة(خارجة عن النمطية الإنتاجية المدينية وعلاقاتها) في امتلاك الحركة الاقتصادية الصاعدة على الساحة، بالتواطؤ مع سلطات الانتداب والبعض من عريقي المدن. ثم استكملت مشروعها السلطوي، من خلال ميوعة النظام الاستقلالي وشكلية مساره الديمقراطي، لترسيخ مفهومها المجتمعي، وذلك بإطلاق المشروعية الثروتية (تبرير النهب) مقابل شرعية الأعراف القِيَمية، الذي أتاح لها عبر هيمنته القدرة على التحكم، بواسطة المال الذي اكتسبته في ظروف استثنائية زمن الحرب الثانية، في مرافق الدولة ومؤسساتها، وسلطتها السياسية وقرارها، وبالتالي التصرف بالسوق الداخلية واحتكارها عبر إحكام الحدود، فعملت على استنزاف الناتج القومي ومدخرات المواطنين باسترجاع الرأسمال المدفوع أثمان المنشآت والمؤسسات الاقتصادية التي استقدمتها أولا (بمقولة التصنيع الوطني)،وإلى تخديم الدورة الاقتصادية الوطنية لصالحها، عبر إفراغ خزينة الدولة، تحت شعار دعم الاقتصاد الوطني وبناء الدولة، بجعل إنفاق الدولة العام ينحصر بتخديم مصالحها ومتطلباتها وبتوريم قوى شرائية في جسم الدولة (موظفين - جنود) وحركة اقتصادية وهمية، ضمن آلية شفط مال الشعب وإعادة ضخه إلى خزائن مؤسساتها ثانيا.
وعلى نمطية في الحكم قريبة من شكل الأنظمة السلطانية ومؤثرات تراكيبها الإقطاعية، إستولد الرأسمال المحدث حاشيته وإقطاعياته الاقتصادية الاستهلاكية تحت غطاء - فاعليات الاقتصاد الوطني- صعد بعض أصحابها من القاع الهامشي /صناعية تجارية مصرفية إدارية أو عسكرية وأمنية/ لإبقاء سلامة نظام الدولة وشموليته، وأقصيت شرائح اجتماعية تقليدية ذات أنماط قِيمية، كانت سائدة وفاعلة، ومجاميعها الشعبية التابعة، واعتمد في تحقيق ذلك على الدسائس وشراء الذمم وحبك وتنفيذ المؤامرات المُؤتَمرَة من سفارات الدول ذات المصالح والنفوذ في المنطقة، وإلى تدبير انقلابات عسكرية ديكتاتورية لتسوية المعضلات والتناقضات المستعصية حلولها وحفظ الأوضاع واستقرارها لصالحها، وإلى تلك المرحلة ربما يعود تآكل وتشوّه مؤسسات المجتمع المدني السابقة جمعيات /الحرف والإحسان والطوائف والأحياء والأنساب/، بعد أن غزاها الرأسمال وحولها إلى واجهات مدعية، وأدوات يناط بها تخريب السلوك العام؛ وقد أصاب هذا أيضا وظيفة وتركيب الأحزاب السياسية بمسمياتها الليبرالية والديمقراطية، كتجميعات بشرية لعراضات ترتزق من المناسبات، لا محتوى سياسي حقيقي لها ولا اجتماعي، على عكس من مثيلات لها وطنية كانت قد نشطت في الثلاثينات ملأت فراغ السلطة وانضوى في صفوفها أصحاب النخوة من شباب أحياء المدن والأرياف، ذوو الحس الوطني والقيمي الأخلاقي، تولت تقديم الخدمات المجانية إلى الأهالي من الحماية والمساعدة إلى الإنصاف والعدل عند حلّ الخلافات، وذلك أيام الانتداب وضعف هيمنة سلطة الدولة؛ وكان يمكن أن تنمذج هذه المبادرات بعد تطويرها لتجمعات مدنية منظمة لاحقة تمتلك برامج وأهداف وتعني بالشأن العام، إلا أن هذه لم تستمر لالتصاقها بالحركة الوطنية كإحدى إفرازاتها، وتبعا لذلك إلى ملاحقة شبابها وقتئذ وتصفية البعض منهم، وتشريد الآخرين وإفقارهم بتحريض من القوى الجديدة، وبتحالف مع سلطات الانتداب.
ورغم مسعى الإقطاع الاقتصادي الجديد، للسيطرة على الدولة والمجتمع، إلا أنه فشل حتى بالتعامل مع المتغيرات السياسية الاقتصادية الدولية والإقليمية والمحلية، أو في معرفة المواقع المفصلية في تنازع القوى العالمية ذات الصلة بأوضاعه، كما لم يستوعب مغزى ومضامين اتساع حركات التحرر الوطني، وعواصفها الاجتماعية آنذاك، أو حتى ملامسة الإحساس الشعبي بضرورات التوجه للعمل القومي والاجتماعي كباب يطل على الأمل.
فالشعب في سوريا لوحة تاريخية من فسيفساء بشرية واعية، لتجمعات متناغمة من شعوب حضارية قديمة، تعلمّت أن تتجاوز ذاتها بشروط جغرافية المكان واستيعابه وإمكاناته، وهذه تتجاور وتتداخل وتتزاحم على مساحة واحدة، تمتد عبر حدود إقليميه أحيانا للالتقاء بالآخر المجتمعي الإنساني، الذي يتفاعل بدوره امتداده في داخلها، وأن ما يعنيه الانتماء القومي أي إلى هذه الهوية العربية: هو خروج الإنسان (في مفهومها العروبي) إلى فضاء ذاته أي إلى الآخر المجاور، لأنه في هذه الحال هو ذاته المقابل لذلك الآخر. إذن فالانتماء العربي هو خلع لضيق العصبيات المحلية و حتى الإقليمية المجاورة والالتقاء بالإنساني وأنشطة بقائه الحيوية، إذن فهذا الفضاء العروبي: هو جدل المتعدد الإنساني الدائم، الكائن على الأرض العربية الواحدة لارتقاء متصّير جديد: هو ذاته فعل التكوين الحضاري، وإن ممارسة هذا الفعل ليس بالجديد علي إنسان المنطقة، إنما هو إعادة لدوره المغيّب كصائغ ممتاز للحضارات وفاعل فيها، وكي يفهم وجوده الحالي يجب ربطه بتاريخه العربي المتحرك، فالعروبة كرسالة قد تَفَعّلت وأنمَت مفهومها الحضاري المعروف في لقاء الداخل والمحيط في تبادل عبور الحدود، وانتشرت مع انطلاقة دمشق إلى الفتح والتأسيس الأموي كما انطلقت بغداد بعدها، وكما مهدت دعةات لها قبله ترافقت من الإبراهيمية إلى المسيحية طيلة ألفي عام. وبهذا المعنى الفريد، وانطلاقا من الموقع الاستراتيجي للمنطقة بالإضافة إلى كونها موطن التقاء واستيعاب للحضارات المحيطة وإلى مساهمات شعبها كمؤسس، اكتسب المفهوم القومي التحريري العربي المتطلع إلى دمشق كالتقاء للعواصم مصداقية آمنت بها الشعوب في المناطق العربية الأخرى.
غير أن ضيق أفق الرأسمال المحدث في (إقليم سوريا) آنذاك، وأصحابه الطارئين منذ أوائل الثلاثينات إلى الخمسينات من القرن العشرين، عمد على توظيف هذه الرؤى والمضامين لمعنى الانتماء العروبي في عمل مضاد استنزافي، نقل شعب سورية والمنطقة إلى مواجهات وصراعات مصلحية تقفز في فراغ، عبر عملية مخادعة والهاء تحجب أزمات النظام في الداخل وعمليات النهب العام، وإرجاع أسباب تردّي الوضع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي إلى أوهام طوباوية مؤدلجة، من خلال المساهمة في دعم تكوينات من أبناء مجتمعات هامشية – من نوعه - غير منتجة وهذه في أساسها لقائط بشرية كانت قد استقدمت أو هجّرت من أنحاء السلطنة منذ القرن 19 ووضّعت دون تأصيل لها أو تأهيل على أطراف المجتمع المديني المستقر لها سمة التخالف مع وحدة الوطن ومغرمة برفع إعلانات ورايات لأيديولوجيات سياسية لا أرض لها، /الشيوعيون، الأصوليون، بعض الطوائف، قوميو الأقاليم، انعزاليون ومذهبيون/، لاستخدامها عبر أجواء التحريض في عملية معقدة على الساحة تهدف إلى تفعيل جهاز الدولة الوظيفي أداة السيطرة والتنفيذ السلطوي القمعي و توسيعه كقوى شرائية، وإلى إبقاء هذه المجتمعات الهامشية كاحتياطي قوى إنتاج، والى دفعها أحيانا ضمن لعبة التوازنات الديمقراطية المعمول بها، كمعارضة مأجورة ماصة للغضب والأحقاد، أو فلكلور مساعد بين السلطة وأحزاب الساحة الأخرى والقوى الإقليمية والدولية.
وكان من نتائج سياسات هذا الاقتصاد المتورم في حيّز صغير، ذي سوق شرائية محدودة أمام صعود اقتصادي أوروبي وعالمي لسنوات ما بعد الحرب الثانية، ينشط لاستعادة أسواقه وأساليبه التجارية في اعتماد سياسة احتكار السوق واقتسام مناطق النفوذ، ومن ثم تداعيات فورة النفط: أن أدت إلى تخبّطات في بنية الدولة لا هادي لها، أدخلت الوضع السوري في النفق المظلم، وأدت إلى تفاقم خطير دفع بكافة القوى السياسية والشعبية باتجاه الوحدة مع مصر.
كانت دولة الوحدة عام 58 بقيادتها الوطنية الناهضة، ضامنا سياسيا واجتماعيا، بعد مؤشرات سقوط مشروع الدولة الاستقلالية، التجأت إليها كافة شرائح المجتمع السوري الفاعلة، بمن فيها الإقطاع الاقتصادي بتجلياته في صورة كبار الموظفين والساسة وقيادة الأحزاب الناشطة، وتولى الحماس الصادق لها، أبناء من الشرائح النبيلة التي كانت قد تضررت وأقصيت عن مواقعها الاجتماعية والاقتصادية، وغادرت دورها، وآخرون كانوا قد عاينوا الأفق المسدود لوضعهم من مثقفين وجنود، ومن ثمّ تمثل بهم أجيال من الشباب الفلسطيني ممن عايش النكبة، وفقدان الأرض ومأساة التشرد والغربة في المخيمات وأحسّوا بأهمية العامل القومي لإبقاء الوجود، والملاحظ عن بعض هؤلاء أن حماسهم للوحدة كان نتيجة لردود أفعال لأوضاع قهرية سابقة لم ترتق إلى الهَمّ العام، ونوع من التسوية الاجتماعية التقليدية اقتضتها دواعي قبولهم واندماجهم في مجتمعات اللجوء ، أكثر مما هو وَعْيُ الضّرورة إلى العمل القومي، ظهر هذا لاحقا بتوالي ارتداد بعضهم وانسحابات آخرين منهم من ساحة العمل السياسي الشاق، وانصرافهم إلى تأمين شؤونهم الخاصة.
لقد كانت نكبة عام 48 في فلسطين حدثا كارثيا عربيا، لم تتحمل نتائجه شعوب المنطقة وخاصة شعب الجوار السوري، غير أن القوى السلطوية فيه لم تدرك خطورة الحدث، ربما لما اعتاده أشخاصها من مكاسب آنية في تعايشهم الودود مع الاحتلال حتى في أيام الثورة والمقاومة السورية، واستعذبوا لعبة الخنوع وانتهاز الفرص، فتعاملت هذه مع حدث النكبة باستخفاف، بل جعلته مصدرا جديدا للارتزاق، لقد أحبطت النكبة التطلعات إلى التقدم العربي، واغتالت الإنعتاق الوليد، وأقامت حدودا مانعة بين شعوب عربية، ودولة غريبة معادية قوية حليفة للغرب تستنزف مستقبلهم، وكانت الوحدة ردا وهدفا سحريا يتناسب مع الهزيمة وتداعياتها، وأيضا ردا على أخطار تتأتى من أطماع أحلاف وتكتلات سياسية وعسكرية دولية محيطة، لها مشروعها بإخضاع المنطقة ونهب ثرواتها وإفقارها، وكانت الوحدة بداية لمشروع نهضوي قومي عربي التفّت حوله كل فئات الشعب، إلا أن الممارسات الإجرائية التنفيذية في دولة الوحدة باستخدام عناصر الجهاز التنفيذي القديم(بيروقراطية العسكر والموظفين)، لم تكن تتناسب مع الاستحقاقات المترتبة على حدث قيامها فأثرت سلبا، إذ كان من الطبيعي أن تنتقل إلى جسم الدولة الوليد الأزمات المحلية العاصفة والتناقضات، مترافقة في ذلك مع طموحات شعب عجول غيّبَ الإجراءات السياسية والتنظيمية الضرورية لسلامة بنيانها ومواجهة أعدائها، على أمل أن يستوعب تلك النقائص حماس الفعل الوحدوي ويتجاوزها، ومع هذا فقد انقادت القيادة الشعبية آنذاك إلى مواجهة أشغلتها، في إقليم أنهكه التسيب والانفلات، وتتناقض تركيبته الدولتية الإدارية والبنيوية في (نظام إقليمي مستقل) مع قيام الدولة الوحدوية، فحاولت القيادة المقاربة بين القطرين عبر طرح مجمل حلول اقتصادية سياسية وعسكرية وسكانية ممكنة على أمل تسوية الأوضاع الشائكة التي لم تكن مهيأة لها بنية الدولة الجديدة.
إذ كان قد اندفع الإقطاع الاقتصادي المحدث بشرائحه المحلية منذ بداية نشوئه، إلى إحكام السيطرة على السوق الإقليمية، وكان بقاؤه وإمكان توسيع علاقاته التبادلية فيه مرهونا بإزاحة فاعليات الإقتصاد القديم ذات الجذور المدينية - من تجار وحرفيين ومنتجين زراعيين ووسطاء- لاحتكار السوق وتشكيله من جديد وفق قواعده، وإمكان اللعب بالتالي بأسعار السلع المنتجة وإقصاء بعضها، ولم يكن هذا بالإمكان دون إجراء تغيير في تقاليد التعامل الدولتي، واللجوء إلى حيل لا أخلاقية، تعتمد أساسا على اختراقات أجهزة الدولة بقطاعاتها الإدارية والعسكرية والأمنية والقضائية، بإغراءات الفساد والمال وتطويعها لاستصدار قوانينها، وقد تسنى لها ذلك مع التدنّي الواقع في المستوى المعيشي للمواطنين آنذاك وانتشار البطالة والإفقار وتوسع القاع، على أثر التخلخل الذي أحدثه غزو الاقتصاد الحديث، وتضافر أحداث مساعدة – مخلفات الاحتلال والحرب وخراب البلاد- أدت إلى تصدع بنى المجتمع القديم وانحلال قدسية أعرافه، وبالتالي ذبول القيم الأخلاقية، قابل ذلك انفتاح انحلالي للمجتمع، ساعد على شراء الذمم، ومع أن جهاز الدولة آنذاك كان لم يزل من إفراز القوى السائدة القديمة وعلاقاتها العرفية والقيمية وممثلة لها، إلا أن هذه المعنية كانت من الشرائح الدنيا، وكانت قد انفصلت كطبقة مع السائد الجديد الاحتلال الفرنسي وملحقاته بإحلال شرائح جديدة في تركيبة بنيتها الوظائفية ذات خصائص متمايزة يشوبها الضعف الأخلاقي والمسلكي، وبالتالي إلى سهولة غزوها من قبل القوى الصاعدة الاقتصادية السياسية المشار إليها وربطها بها، وبالتالي إلى استشراء مفاهيم أحلّت نهب المال العام والمجتمع.
فالإقطاع الاقتصادي السوري هذا لم يلقَ من القيادة الناصرية ما كان يرجوه لقاء الموافقة على تنازله عن السلطة - وان كان بداية قد وافق بفعل الضرورة (الخوف من انهيار الدولة) - رغم أن بعض شرائحه وأخرى متوسطة منه كانت قد انفلتت من ثغرات واستفادت من اتساع السوق في زمن الوحدة، في جمع الثروات، وان قيادة الوحدة آنذاك وان كانت قد اعتمدت في صفوفها شرائح وطنية عفيفة من المثقفين والعسكريين، إلا أنهم لم يكونوا على دراية كافية، كما أن مفهوم الدولة (دولتهم) مستقطبة ومغلقة على دائرتهم، كان المهيمن على تركيبة المسار الاقتصادي السوري، ويتناقض مع انفتاح حدود الدولة والعقلية الاحتكارية وبالتالي مع الوحدةشكلا، ودولة بناء - مضمونا ، لذا عجزت القيادة الوحدوية عن التحكم بالإدارات والمؤسسات، فالإقطاع الاقتصادي بشرائحه ونخبه المتغربة الداعمة كان له تواجده ونفوذه في استطالات بنيوية ذات أفق ضيق وعقلية انتهازية شرسة تتشعب في أجهزة الدولة المدنية والعسكرية، وبقايا الأحزاب السياسية، وهذه لم تكن لتعير أهمية للمصالح الوطنية والقومية المستقبلية /أمام استزلامها وارتزاقها الآني/ في تحرير فلسطين والدولة العربية القومية، وتحقيق العدالة والرفاه الاجتماعي وصيانة الوطن من أعدائه قوام الدولة المتحدة الجديدة، التي كانت تعتمل معاني مفاهيمها في وجدان الجماهير، فتفيض مشاعرها تأييدا حماسيا غامرا للقيادة الوحدوية، لذا اضطرت القيادة مع علمها بمواضع الخلل إلى الاعتماد على من يخالفها في تنفيذ حلولها وتسيير إداراتها مع فقدان ثقتها بالتنظيمات والمؤسسات الشعبية السياسية – وكان يمكن تأسيس هذه مرحليا بمبادرات شعبية وإشراف سلطوي - أي على جهاز الدولة القديم ومن ضمنه أفراد الأجهزة الأمنية الفاسدة المعروفة بتجاوزاتها وتبعيتها، ومما ساهم في تفاقم الوضع اندفاع شرائح شعبية واسعة عديمة الخبرة من القاع – عفوية المسعى- لحماية الوحدة عبر توريطها بالعمل الأمني بسيل إخباريات ووشايات لا داع لها أغرقت الدولة في غفلة عن القيادة، مما حول الدولة إلى آلة أمنية والى انتشار حالة من الفوضى القمعية دفع إليها واستغلها العناصر المتحكمة، ولم تنتبه القيادة إلى ما آل إليه الحال وإمكان انتكاس وتبدل الولاء لحسابات فردية مصلحية لا وطنية إلا لاحقا.
وكانت القيادة الوحدوية قد وجدت أن مسيرتها الاقتصادية الداعمة لدولتها لا مخرجا لها إلا بإعادة الوضع الاقتصادي إلى صوابه وذلك بإيقاف عطالة الريف واستنزافه- أولا عبر زيادة الاهتمام بالمساحات الزراعية الموزعة وتطويرها وتولي رعاية الفلاحين والنهوض بهم والتخطيط لإقامة مشاريع زراعية واعدة وتنفيذها للعودة بطريقة ما إلى الاقتصاد الأسروي والاكتفاء الذاتي والعمل على تسويق الفائض منه بتنشيط تبادلي لربط الفلاح بأرضه والحد من تورم المدينة بفقراء الريف، وبما أن بنية الدولة السورية قد انتظمت بما يخدم الرأسمال، لذا كان من الصعب تقويم الأمور سياسيا واقتصاديا إلا بإزاحة القائمين على المؤسسات الاقتصادية وإحلال دولة الوحدة بمفهومها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي مكانهم- ثانيا، لذا لجأت السلطة إلى التأميم كإجراء سياسي اقتصادي احترازي، للحد من تسيب المال العام، ومن اختناقات الدورة الاقتصادية، عبر إعادة المؤسسات هذه وعائداتها إلى الوطن المنهوب، وتوزيع الناتج القومي بشكل منظم متوازن عادل على مختلف قطاعاته، في محاولة لوقف فاعليات الاقتصاد القطري ونفوذه السلطوي والسياسي والمجتمعي من متابعة جر الدولة والمجتمع بالاتجاه الانفصالي من أجل إبقاء الوحدة.
هذا المقترب على تواضعه إنما يقود إلى حقيقة بأن سلطة القيادة الوحدوية في سوريا إنما كانت أسمية على أراضي القطر، بينما السلطة الفاعلة على الساحة كانت للرأسمال المتوضع وطنيا بأشكاله الصناعية والتجارية والكامبرادورية، أما المثالب فقد حمّلت لقيادة عبد الناصر لإسقاط كل المشاريع القومية والطموحات الشعبية الوطنية بسقوطها، ولينتظر الشعب بعدها كوابيسا ترهقه وواقعا محبطا لا أمل منه.
فالخطوات السياسية الاحترازية القومية المعلنة بقرارات تموز التي اتخذت لباسا اشتراكيا لم تلامس في مفاعيلها سطح العلاقات الدولتية، ولم يتسنّى لنتائجها أن تُظهر – من تموز القرارات الاشتراكية عام 61 إلى انفصال أيلول من نفس العام- آثارا سلبية أو إيجابية، إنما كانت بمثابة قراءة متفحصة للوضع الخطأ وإمكان معالجته، وخطوة جسورة، وكانت رسالة وطنية واجتماعية واضحة غير مألوفة لكل الأطراف المعادية، لذا كانت الضربة قوية سريعة، فاجأت الشعب والقيادة رغم الحسابات في واقعة انفصال الجمهورية العربية المتحدة في دمشق عام 61 التي لم تغب عنها أنشطة معهد شملان للجاسوسية في لبنان وتحركات السفارة الأمريكية هناك وأموال وتوجيهات السفارة الأمريكية في عمان.
وهكذا فان توهّج دولة الوحدة، لم ينقذها من العثرات، كما لم يجنبها مواجهات خطرة عصفت بمسارها القصير، على أمل انتظار نضج الظروف، أو وعي شعبي يسبر الأعماق. ‍‍‍
* كاتب قومي عربي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق