الثلاثاء، 10 نوفمبر 2009

مشروع الوثيقة الفكرية للمؤتمر العام العاشر


حزب الإتحاد الإشتراكي العربي الديمقراطي / سورية

مشروع الوثيقة الفكرية للمؤتمر العام العاشر / القسم الأول

مقدمة عامة:

يبدو من الواضح لكل مراقب سياسي , أنّ أبرز التطورات التي يحفل بها المشهد السياسي الداخلي والعربي حالياً, تشير عبر انعكاساتها السلبية إلى أنّ أزمة الثقافة العربية ,وانحباس الأيديولوجيا في عنق الزجاجة, يعتبران من أبرز العوامل التي أدت ,وما تزال تؤدي, إلى افتراق تلك التطورات والتحولات عن منهج العقلانية السياسية , وعن أن تكون معبرة,ولو في حدودها الدنيا, عن الطموحات والأهداف الوطنية والقومية للأمة العربية , تلك التي تراجعت لحساب أهدافٍ أخرى ما دون وطنيةٍ أو مدنية, متعارضةً بذلك مع مجمل التحولات العالمية المعاصرة في جانبها الحضاري ,وليس في جانبها الرأسمالي المهيمن على مقدرات العالم وقدراته فائقة التطور والنمو المتسارع بفعل التقدم العلمي والتقني الذي يسير بوتيرةٍ مذهلة.ومتعارضة كذلك ,وهو الأهم, مع أهداف الأمة, ومحتجزة لكل الإمكانات والطاقات التي ينبغي توظيفها بكفاءةٍ عالية لإنجاز وتحقيق الاحتياجات الحيوية للمجتمع العربي في أقطاره المحكومة بمنطق, ونهج, ومسار إرادة القوة والقمع والاستبداد ,عبر تغييب قوة الإرادة الوطنية وتجلياتها في مختلف الميادين.

وليست كل هذه الفوضى المدمرة في السياسية العربية الداخلية والإقليمية والدولية , وكل هذا الاختلاط والتباين والافتراق في مواقف الأنظمة العربية من القضايا الوطنية والقومية الكبرى ,وأيضاً مواقف المعارضات العربية وقواها وأحزابها السياسية , ليست في أبرز جوانبها إلاّ تعبيراً موضوعياً عن تلك الأزمة العميقة التي يعاني منها الفكر السياسي العربي في معظم محاوره التي تشكل عبر الارتباط فيما بينها عماد التحليل السياسي ونمط الرؤية الخاصة به في إدراكه لمجمل الأحداث والتطورات الحاصلة في المنطقة والعالم.

لذلك يمكن القول ,اختصاراً, أن إعادة بناء الموقف من مجمل التطورات في الوطن العربي, بصورةٍ بعيدة عن الاختلاط والتشوهات التي تصيب الرؤية السياسية بوجهٍ عام , تتطلب العودة إلى البحث في منهج التحليل السياسي وفقاً لرؤية واضحة تنسجم من خلالها نتائج التحليل واتخاذ الموقف السياسي الصائب والواضح مع مجمل التطورات الفكرية التي تدلل على كيفية ابتكار الآليات الجديدة لتحقيق الأهداف التي ما تزال معلنة, وقابلة للتحقيق بالرغم من كل المعوقات الحالية, بوصف هذه المعوقات مجموعة من التحديات الداخلية والخارجية أمام العمل الوطني والقومي العربي الذي يعاني من وضعية عربية تتسم بنوعٍ من الاستعصاء الكياني إزاء المحاولات الرامية إلى الانتقال من حالة العطالة الاستبدادية المهيمنة في مركز القرار السياسي العربي ,في اتجاه إطلاق مفاعيل النهضة العامة والشاملة.

وقد تبين لنا, على امتداد السنوات الخمس الماضية الفاصلة بين انعقاد المؤتمرين التاسع والعاشر لحزبنا, أننا واجهنا العديد من الإشكاليات في الكيفية التي تمّ التعبير من خلالها عن مواقفنا السياسية من التطورات الحاصلة في المنطقة ,وعلى مستوى العالم, مما يجعلنا بحاجةٍ ماسة إلى إعادة البحث في جذور القضايا , والعمل على كشف الأسباب الحقيقية التي أدت وتؤدي إلى ارتكاب العديد من الأخطاء في كيفية طرح أسئلة الحاضر والمستقبل الوطني والقومي , وفي كيفية الإجابة على متطلبات النشاط السياسي لحزبنا في إطار الحركة الوطنية الطامحة للتغيير الوطني الديمقراطي , وكذلك في مقتضيات العمل لتوطيد أسس التحالفات الوطنية ,وتنظيم التواصل والتفاعل السياسي والثقافي مع القوى الوطنية والقومية وكافة فعاليات وهيئات المجتمع المدني داخلياً وعربياً , وذلك بهدف إيجاد المناخ العام المناسب لإطلاق وتفعيل آليات النضال من اجل بلوغ الأهداف المرتسمة في أفق المستقبل العربي بصورةٍ عامة .

وفقاً لهذه الاعتبارات, ثمّة ,إذن, قضية راهنة لا بدّ من العمل الدؤوب على محورها الرئيسي الذي يتمثل في تحسين الشروط الذاتية والموضوعية داخل حزبنا وفي الإطار العام للحركة الوطنية الديمقراطية في بلادنا , لتحويلها إلى قضية منجزة وقابلة للتطور الدائم من أجل اعتمادها أساساً في صوغ مواقفنا السياسية مما يحدث في الداخل الوطني وعلى المستوى العربي والإقليمي والعالمي, ,ونقصد بها القضية الخاصة بطبيعة ومحددات الفكر السياسي الذي يشكل المحور الرئيس للمحاكمات النظرية ,وللحوار الديمقراطي الحر والمفتوح بوصفه أبرز محاور نشاطنا السياسي والثقافي, وخاصةً مع القوى والأحزاب السياسية التي نشترك معها في مقاربة القضايا الوطنية والاجتماعية , ونتفق معها في ضرورة إعادة بناء التحالفات السياسية على أسسٍ موضوعية للعمل بدلالة مشروع الأمة الذي ينطلق ,في رأينا أساساً, وفي اللحظة الراهنة من ضرورة إنجاز مهام بناء الدولة الوطنية الديمقراطية , دولة الكل الاجتماعي , باعتبارها تشكل الأساس الدستوري والقانوني والاجتماعي والسياسي والوطني عموماً للتوجه نحو تحقيق الأهداف القومية للأمة العربية.

وفي مشروع الوثيقة الفكرية الأولى التي قُدمت المؤتمر العام التاسع ,كانت لنا وقفة مع العديد من القضايا التي ينبغي إدراك مضامينها وأبعادها الثقافية ,كمستند لإعادة التأسيس لوعيٍ ثقافي جديد ,يتسم بامتلاك القدرة على النقد الموضوعي ,وعلى تطوير الأفكار والتصورات حول منهجنا في العمل الوطني والقومي , وحول توحيد الرؤى لمجمل المفاهيم المطروحة حديثاً ,وإدماجها في ثقافتنا العامة ,إضافةً إلى إدراك التحولات العميقة التي أصابت المجتمعات الإنسانية عامةً ومجتمعنا العربي بوجهٍ خاص في ظل العولمة الراهنة ,وفي واقع ارتداد السياسة العربية إلى محاور التقليد عبر إعلاء شأن النزعة القطرية المحتضنة للوعي الزائف حول مجمل القضايا الراهنة , والمولدة كذلك لظاهرة الفساد والإفساد وانتشار النزعة الاستهلاكية بديلاً عن الاهتمام بالشأن العام وممارسة السياسة ,وأيضاً المحاولات المستمرة للأنظمة العربية لإدامة القهر والاستبداد ,وسط احتجاز السياسة المدنية الحديثة, والثقافة التي تعرضت أخيراً لشروخٍ عميقة نتيجةً للسياسة العدوانية التي انتهجتها الإدارة الأمريكية السابقة ,إضافةً إلى الأنظمة الاستبدادية المعادية لهذه الثقافة

وفي هذا الإطار ينبغي التأكيد على أهمية الحوار الديمقراطي الحر والمفتوح مع كافة القوى الحية والفاعلة في المجتمع لإيجاد الشروط الموضوعية الخاصة بالعمل الوطني ,وأن يتم التأسيس لعقد اجتماعي مدني يشكل المحور الرئيسي لبناء الوحدة الوطنية القابلة والقادرة على إحداث التحولات الديمقراطية اللازمة ,بوصفها المقدمة الموضوعية لبناء الدولة المدنية الحديثة.

كما ينبغي التأكيد بصدد مقومات الدولة الوطنية ,إضافةً إلى ضرورة حل المسألة الديمقراطية بكلّ منطوياتها الفكرية و السياسية والقانونية والاجتماعية ,على ضرورة أن يكون العمل بدلالة مشروع الأمة واضحاً في نهجها ومسارها ,وفي سياستها وعلاقاتها العربية والإقليمية والدولية .وذلك من خلال الإدراك العميق بأن المشروع النهضوي العربي يصبح ممكن التحقيق في أفق المستقبل عندما يتم العمل بدلالة الضرورة الموضوعية لإنجاز مهامه المتعددة المرحلية منها والاستراتيجية,وحين يدرك من بيدهم الأمر في مركز القرار السياسي للدولة, ناهيك عن المعارضة السياسية, أن مسار التحقيق لهذا المشروع يتطلب مراعاة التلازم غير القابل للعبث بين متطلبات السياسة الواضحة والقائمة على مواجهة كافة أشكال الهيمنة الأجنبية والمشروعات المعادية التي تخترق المنطقة, وفي مقدمتها المشروع الصهيوني المعادي لأمتنا العربية, والمشروع الأمريكي في المنطقة .وبين متطلبات السياسة الداخلية القائمة على الحرية والعدالة ومحاربة الفساد والإفساد والاستبداد من جانبٍ آخر .

ولا ريب أن الزمن الفاصل ما بين صدور الوثيقة الفكرية الأولى ,وما نحن عليه الآن, قد حفل بالعديد من التطورات والأحداث المتسارعة التي اتخذ حزبنا إزاءها العديد من المواقف السياسية التي أثرت على المساهمة الفاعلة, على نحوٍ ما, في مجال العمل الوطني والقومي , ولابدّ والحالة هذه من التقدم في اتجاه تطوير الفكر والوعي النقدي ,الذي يتطلب من جانبه المزيد من الشفافية والوضوح ,وامتلاك الشجاعة الأدبية لإجراء مراجعةٍ نقدية ,نستشف بها ومن خلالها آفاق المستقبل في نضالنا الوطني , والكيفية التي يمكن من خلالها مواجهة المشاريع الخارجية المعادية.

وعلى طريق هذا التطوير والإغناء أيضاً لا بد من الاستفادة مما يصدر من آراءٍ وأفكار وتصورات يتم وضعها في نصوص معتمدة من مراكز البحث ,ومن مواقع المجتمع المدني في وطننا العربي عموماً , وأبرزها ما صدر أخيراً من مركز دراسات الوحدة العربية من مشروع فكري لتجديد النهوض الوطني والقومي العربي .ذلك المشروع الذي ساهمنا كحزبٍ سياسي بوضع ملاحظاتنا على ما تضمنه من أفكار لا تختلف في مقاصدها القومية عن النهج والمسار الذي اختطه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ,وعن ما توصلنا إليه من نقدٍ موضوعي للفكر القومي العربي عموماً .

ولذلك تتضمن هذه الوثيقة معظم فقرات هذا المشروع وبنوده الرئيسة بعد إجراء التعديلات اللازمة التي تنسجم مع توجهاتنا الفكرية والسياسية ,إضافةً لتغطية الجوانب التي لم يتعرض لها ذلك المشروع بالبحث والتحليل ,وأهمها قضية الليبرالية ,والدور الذي يمكن لمنظمات وهيئات المجتمع المدني أن تقوم به على طريق تحقيق الأهداف المرحلية والاستراتيجية لأمتنا العربية .

أولاً : حول أسئلة النهضة :

قد تُصاب أمةٌ في لحظةٍ من تاريخها بالإنكفاء فتنتكس, حركةُ التراكم والتقدم فيها وربّما تنقلب على الأعقاب، فَتَذْوِي فيها روحُ الإبداع وتسقُط حركتُها في الاجترار، بعد إذْ كانت في قلب صنّاع الحضارة والمدنية والتاريخ. ذلك ما حصل للأمة العربية ومشروعها العربي / الإسلامي في تواريخ مختلفة من العصر الوسيط: انقسام الدولة إلى أربعة مراكز (خلافة عباسية في العراق، خلافة فاطمية في مصر، خلافة أموية في الأندلس، خلافة مرابطية في المغرب)، سقوط الخلافة في بغداد، سقوط الأندلس، سيطرة العثمانيين على العالم العربي الوسيط. وقد امتدت لحظة الانكفاء والانتكاس طويلاً لتستغرق عشراتٍ من أجيالها تتباعد الصلةُ بينهم وبين معطيات الحضارة التي تنتسب إليها، فلا تكاد تَعْرِفُ عنها إلاّ اليسير. وذلك ما حصل للأمة العربية التي امتدّ بها زمنُ الانحطاط طويلاً إلى حدود القرن التاسع عشر.

لكن الفكرة العليا التي صنعتِ الأمةَ وصنعت لها حضارةً وسلطاناً في التاريخ تظل – مع ذلك كله – حيّةً في أذهان قسمٍ ولو قليل من أبنائها، فتدفعه إلى استدعائها باستمرارٍ وإلى الحنين إلى ثمراتها. ثم تدفعه إلى التوسُّل بها مادةً يبني عليها وبها طموحاً أو مشروعاً للنهوض من جديد من أجل اللَّحاق بغيره ممن اقتحم آفاق التاريخ وذهب بعيداً في خيار التقدم والبناء الحضاري. وتلك كانت سيرةَ جيلين من النهضويين العرب في القرن التاسع عشر: من رجال الدولة (منذ محمد علي) ومن المفكرين (منذ رفاعة رافع الطهطاوي)، بَدَتْ لهم أوضاعُ التأخر التاريخي العربي وتحدي المدنية الأوروبية الزاحفة في ركاب الاستعمار بيئةً لإثارة سؤال النهضة في وعيهم. وهو عين ما عبر مشروعُهم الفكري الإصلاحي والتحديثي عنه بجلاء. ثم ما لبث الطموح النهضوي أن أطلَّ مجدَّداً – بعد عثرةٍ في النصف الأول من القرن العشرين – من أرض الكنانة، حين أعلنت ثورة تموز/يوليو1952 مبادئها الستة، واشتبكت مع الأحلاف الأجنبية و"إسرائيل"، وأطلقت مشروعها التنموي في الداخل، ومشروعها القومي الوحدوي في المحيط العربي، قبل أن تنال منه معطيات حقبة ما بعد حرب العام 1967.

ونحن اليوم، وبعد انكسار المشروع النهضوي العربي وتغييبه عن المستوى الرسمي في إعقاب العام 1970، وبعد احتلال العراق في2003، نجد أنفسنا أمام الأوضاع ذاتها التي عاشتها الأمة غداة الاحتلال الاستعماري لأوطاننا في القرن التاسع عشر وبعد الحرب العالمية الأولى. وإذا كان زحف جيوش نابليون على مصر، واحتلال المشرق العربي وتجزئته بعد الحرب الأولى، وقيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، قد أطلق ثلاثة ردود فكرية وسياسية نهضوية بحجم تلك الأحداث/المنعطفات هي: المشروع الإصلاحي النهضوي في القرن التاسع عشر، والفكر القومي المعاصر بين الثلاثينيات والخمسينيات من القرن الماضي، ثم المشروع القومي الناصري في النصف الثاني من القرن نفسه، فإن لحظة التراجع العربي العام، التي بلغت ذروتها في اللحظة الراهنة، ستكون البيئة الموضوعية الطبيعية لمعاودة التطلع إلى الردّ عليها بمشروع نهضوي تستأنف به الأمة مسيرتها نحو الانتماء إلى حركة التاريخ. مشروعٌ تبني فيه على ما سبق من مكتسبات المراحل السابقة، وتضيف إليه أجوبةً تاريخية عن المعضلات الجديدة التي طرحها التطور المعاصر وتحوّلاته الدراماتيكية في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي وسنوات العقد الأول من هذا القرن.

1- تراجعٌ عربيّ يدعو إلى استنهاض

دخل الوطن العربي، في العقود الثلاثة الأخيرة، طور تراجعٍ عامّ طال مستوياته كافة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية. وقد تفاقمت معطيات ذلك التراجع على نحوٍ لا سابق له بَدَا معه الوضع العربي وكأنه جانحٌ نحو السقوط. مظاهر عديدة تشهد على ذلك التدهور والتراجع:

أولها تداعيات الهزائم العسكرية أمام الأعداء الخارجيين في السياسات الرسمية العربية، وبناء هذه السياسات على قاعدة التسليم بتلك الهزائم كأمر واقع لا على قاعدة التخطيط لمواجهة آثارها، ومَحْو تلك الآثار. وإلى تلك التداعيات يعود تفسير ظواهر سياسية سلبية وبالغة الخطورة في نتائجها مثل التنازل عن الثوابت، والتفريط في الحقوق، واللهاث وراء التسويات المجحفة مع العدو، وإسقاط الخيار الدفاعي، والتمسك الأعمى بالحل الأمريكي لقضايا الصراع العربي – الصهيوني. إن هذا النزوع التفريطي الانهزامي هو الذي قاد الأمة إلى الاتفاقيات المذلة مع الكيان الصهيوني، والتسليم بالاحتلال الأمريكي للعراق والاعتراف بالمؤسسات غير الشرعية التي أقامها وفرضها على العراقيين، مما أدى هذا المنحى بالسياسةَ العربية الرسمية إلى إسقاط الأنظمة لالتزاماتها القومية كاملة بعد ان تكفلت بتحويل الانتصارات في حرب الاستنزاف وحرب تشرين الأول / أكتوبر إلى هزيمة سياسية والتشرنق على فكرة "السلام" مع حسبانه "خياراً استراتيجيّاً وحيداً"!

وثاني مظاهر التراجع هو التدهور المروّع في معدَّلات النموّ الناجم – أولاً – عن فساد السياسات الاقتصادية الرسمية، وعن الانتقال من الاقتصاد الموجَّه إلى الاقتصاد الحرّ دون ضوابط، وما استتبعه ونجم عنه من بيع ممتلكات الدولة والشعب إلى أفراد خرج العديد منهم من رحم فساد القطاع العام والنهب المنظم للثروة وللمالية العامة , ومن قوى الاستبداد المهيمنة على السلطة ...، والناجم – ثانياً – عن سياسات الاستدانة وتبعاتها الخطيرة على مالية الدولة، والانصراف المتزايد عن القطاعات الإنتاجية إلى قطاع التجارة والخدمات ومجمل أشكال الاقتصاد الطفيلي ثالثاً، ناهيك عن سوء التدبير للفجوة المتزايدة بين الموارد والسكان وسوء تدبير المال العام وعدم الإنفاق على برامج التنمية وهدر الموارد وسوء تدبير برامج تنمية الأسرة.

لقد انهار الأمن الاقتصادي والغذائي في الوطن العربي بنتيجة ذلك كلِّه. وفي امتداد انهياره، زحف الفقر ليشمل قطاعاتٍ عريضةً من السكان، وازدادت الفوارق الطبقية بشكل فاحش ومخيف، وارتفعت درجة الاحتقان الاجتماعي الداخلي، وباتت البلاد العربية مرتعاً لأنواعٍ من التناقضات والصراعات الاجتماعية تهدّد بزعزعة استقرارها وتعريض أمنها الاجتماعي للخطر.

وثالثها تزايد وتائر الاستبداد والتسلط في النظم السياسية العربية، وانعكاسهما إهداراً متعاظماً للحريات العامة وحقوق الإنسان. إذ تعاني الحياة السياسية العربية اليوم من انسدادٍ خطير قادت إليه سياسات التسلط واحتكار السياسة والسلطة من قبل نخبةٍ ضيقة أو عائلةٍ أو طائفةٍ أو حزبٍ حاكم، وتهميش سائر التعبيرات السياسية الأخرى، وإطلاق قوى الأمن والاستخبارات في الشؤون العامة، وانتهاك القانون والدستور (إن وُجِد)، وتزوير إرادة الشعب في الانتخابات، وخرق استقلالية القضاء وإخضاعه للسلطة التنفيذية، وتكميم الصحافة بتسليط سيف الرقابة عليها، واحتكار الإعلام السمعيّ – البصري، وفرض أحكام الطوارئ والقوانين الاستثنائية، وإنشاء محاكم غير قانونية لمحاكمة سجناء الرأي، وتجريد المعتقلين من حقوق الدفاع ومن الضمانات القانونية والدستورية للمحاكمة العادلة، والتضييق على حرية البحث العلمي، وانتهاك أبسط الحقوق المدنية كالحق في السفر والتنقل، وحرمان المرأة من حقوقها الطبيعية، وتجاهل مطالب المجتمع والمنظمات المدنية والمعارضة ومواجهتها – في معظم الأحيان – بقسوة. وقد ذهبت الأزمة بالنظام السياسي للدولة العربية إلى حدود تحويل الدولة إلى جزء من أملاك الحاكم على نحو ما تعبر عنه سياسة التوريث وتحويل الجمهوريات إلى ملكيات جديدة مطلقة!

ورابعها تضخُّمُ حالة الانكفاء الكياني للدولة القطرية العربية وخاصةً منها النظام السوري وتضاؤل أحجام ومستويات الصلة بين الدول العربية. لقد وأدت الدولة القطرية العربية فكرةَ الوحدة العربية لأن المصالح السياسية والطبقية التي يستند إليها النظام السياسيّ فيها والنخب الحاكمة فيه تنامت وترسخت إلى الدرجة التي بات الدفاع عنها، هو الهدف الاستراتيجي الأول لتلك النخب! في المقابل، لم تكن صادقة في صناعة شراكة إقليمية تعاونية – حتى دون مستوى الوحدة – في إطار جامعة الدول العربية، لأن درجة حساسيتها تجاه مسألة السيادة ظلت عالية جدّاً، فَمَنَعَتْهَا من رؤية خيار التعاون والشراكة رؤيةً صحيحة. وإذا كان ما يسمّى بالنظام الإقليمي العربي قد بلغ اليوم نهاية نفقه المسدود مراوحاً في مكانه، فإن الأنكى والأدهى أن علاقات الدول العربية بعضها بعضاً انحدرت إلى دَرَكٍ مخيف: في السياسة كما في الاقتصاد والتجارة، إلى حدٍّ نَكَاد لا نعثر فيه على حالة جوارٍ واحدةٍ حَسَنَة بين دولة ودولة

وخامسها الانهيار المروّع للأمن القومي نتيجة عجز القدرة الدفاعية العربية عن صونه وحمايته. كان اختلال التوازن العسكري بين الدول العربية و"إسرائيل" – لصالح الأخيرة – بدايةَ ذلك الانهيار، خاصة بعد إسقاط الأنظمة العربية للخيار العسكري وجنوحها المعيب للتسوية. إِذِ اسْتُبِيحَ الأمنُ القومي في هذا السياق، حيث وصل إلى درجةٍ عالية من الانهيار ,من خلال التدفق العسكري الواسع للقوات الأمريكية على الجزيرة العربية والخليج منذ التحضير لضرب العراق في العام 1991 وصولاً إلى تدميره والاستقرار في دول منطقة الخليج العربي، انتهاء باحتلال العراق ومحاولة إقامة قواعد دائمة فيه، والتطلع إلى الإخضاع الكامل لسائر دول الدائرة العربية حتى تلك التي تقبل منها بفكرة الأمن المستورد بدل الأمن القومي العربي. ولم يكن ليعدِّل من هذا الانهيار نسبيّاً سوى النجاح في إلحاق ضربات موجعة بالقوى المعادية بين الحين والآخر .

تلك ظواهر تشهد بالمدى البعيد الذي بلغه التراجع في أداء الوطن العربي في العقود الأخيرة، وسياقاتها العربية التي جرى فيها. لكن هذه السياقات مشدودة بمعطياتٍ دولية وإقليمية تفرض أحكامَها على مجمل الواقع العربي، وتفرض التدهور حالاً متماديةَ الفعل والتأثير في حركة تطوُّره المعاصر.

2- السياق العالمي والإقليمي :

لا ريب أن السياق العالمي والإقليمي لمحاولات النهضة العربية لم يكن دوماً مواتياً أو غير موات، فقد بقي قدر من حرية الحركة في النظام العالمي عقب هزيمة1967، لكن النظام العربي لم يحسن استغلاله دوماً، وعندما تحولت قيادة النظام العالمي إلى نموذج الأحادية القطبية واجه النظام العربي واحدة من أسوأ مراحله، ويكفي أن احتلال العراق قد تم أثناءها، غير أن هذا النظام بسبب عوامل الضعف الداخلي فيه بدا حتى الآن غير قادر على الاستفادة من التطورات العالمية المواتية التي بدأت قسماتها تتضح في أعقاب احتلال العراق والصحوة الروسية والتقدم الصيني المطرد، ويعني هذا أنه ما لم تحدث تحولات داخلية مواتية في النظام العربي فإن التطورات العالمية باتجاه العودة إلى تعددية القيادة في النظام العالمي لن يكون لها أثر يذكر على مسيرة نهضته، والأمر نفسه ينطبق على السياق الإقليمي فقد كان بمقدور النظام العربي أن يستثمر على نحو أفضل ما حققه من إنجازات في صراعه مع الكيان الصهيوني، والقواسم المشتركة مع الثورة الإيرانية والسياسة التركية والبلدان الأفريقية، غير أن هذا النظام ظل غير قادر على إيجاد المعادلة الصحيحة في مجمل علاقاته الإقليمية

3- غياب مشروع نهضوي معاصر

تلك سمات البيئة الإقليمية والدولية، والفرص والهوامش المتاحة أمام شعوب دول الجنوب للنهضة والتقدم. فما الذي يمنع الوطن العربي من استثمار تلك الفرص وتوقي المخاطر؟ الجوابُ هو غياب مشروعٍ نهضويٍّ عربيٍّ معاصر يتطلع إلى إنجاز حلقات التوحيد القومي والتنمية والاستقلال والتقدم. أما أسباب هذا الغياب، فَلَها تاريخ.

بدأ محمد علي باشا تجربته في الإصلاحات متأثراً بفرنسا. كان ذلك قبل أن تبدأ الدولة العثمانية تجربة "التنظيمات" بعقود. ولقد طبعت محاولاتُه تلك سائرَ المحاولات الإصلاحية التي أعقبت الأولى في القرن التاسع عشر. ومن أبرزها تحديث الجيش وتطوير هيكله النّظاميّ، الإصلاح المالي والجبائي، الإصلاح الإداري، تطوير النظم التعليمية وإرسال بِعْثَاتِ الطلبة إلى أوروبا للتكوين، ...الخ.

كان لهذا المشروع النهضوي وجْهٌ فكري رافَقَ المشروع السياسي وأسَّسَ له شرعيته. وهو كناية عن التراث الفكري الإصلاحي الإسلامي والتراث التنويري الحداثي في القرن التاسع عشر: التراث الذي دارت موضوعاته حول التّرقي والتّمدن والإصلاح والحرية، وساهم في صَوْغِ نصوصه الكبرى مفكرون كثر من التيارين الإسلامي والليبرالي ، وليس من شك في أن وجود مشروع سياسيٍّ نهضويٍّ حينَها وفَّرَ شرطاً تاريخيّاً لنمّو هذا التراث الفكريّ النهضويّ؛ وكما أن وجود الأول حينها كان في حاجة إلى الثاني: يبرره ويؤسس له المشروعية فإن الثاني كان بحاجة إلى الأول ليستلهمه فيما يدعو إليه، ولم يكن عبثاً أن طلباً متزايداً على النخبة الإصلاحية سيرتفع كثيراً بارتفاع معدَّل الانغماس السياسي في عملية الإصلاح، وأن بعض رموز النهضة الفكرية أُوكِلَتْ إليهم وظائف كبيرة في الدولة.

بدأ العرب مشروع نهضتهم الفكرية والسياسية مبكراً نسبياً . أدركوا المغزى العميق لحملة نابليون واحتلال الجزائر : نهاية مدنية وبداية أخرى . ولم يتأخروا في الرد على ذلك التحول الجديد الذي أحدثه قيام المدنية الأوربية الحديثة , فجاء الرد استجابةً. نعم, قاوموا الغزوة الكولونيالية بإباء , لكنهم تنبهوا إلى ما في أوروبا من مصادر قوة : العلم والصناعة والتنظيم العقلاني للإدارة والدولة والقوة العسكرية الحديثة.... الخ واجتهدوا في الأخذ بأسبابها وفي تأصيلها.

* * *

ولقد دَشَّنَتِ ثورة23 تموز/يوليو 1952 طوراً نهضويّاً جديداً حين أطلقت مبادئها الستة ومشروعَها التنمويَّ والاستقلاليَّ والوحدويّ. فقد أحدثت مكتسباتُها استنهاضاً لا سابق له لكل قوى الأمة وطموحاتها التحررية والقومية. ومن يستعيد اليوم معطيات النهج والمسار الناصري الذي ما يزال راهناً، والمكتسبات التي تحققت في إطاره، يدرك إلى أيّ مدًى شقَّ ذلك المشروع طريقه إلى النهضة.

استند المشروع الناصري إلى رؤية برنامجية لعملية النهوض الوطني والقومي شملت المجالات كافة: توجهت في الداخل المصري إلى تحقيق الإصلاح الزراعي وإعادة تحديد ملكية الأرض وتوزيعها على الفلاحين الصغار، وتحديد الإيجارات للأراضي الزراعية واستصلاح الأراضي وتنمية مساحاتها، وإعادة تنظيم تدفق الثروة المائية وتوزيعها ببناء السدّ العالي. وتوجهت إلى التصنيع والتصنيع الثقيل أو إلى إنتاج أدوات الإنتاج فضلاً عن تنمية صناعة النسيج. وأمَّمت شركة قناة السويس والبنوك والمصارف والشركات الكبرى المملوكة للأجانب أو لقوى الرأسمال الخاص وأخضعتها لملكية الدولة، ونمَّت القطاع العام. ثم قدمت مساهمةً رائدة في تحقيق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص والحدّ من الفوارق بين الطبقات بإنصاف فئات الكادحين في حقوقهم الاجتماعية. وقبل ذلك كله، أنجزت مهمة الاستقلال الوطني الكامل من خلال حمل بريطانيا على الجلاء.

أما على الصعيد القوميّ، فقد قادت مصر الناصرية المعركة ضد الأحلاف الأجنبية، ووضعت قضية فلسطين والصراع العربي – الصهيوني في قلب أولويات سياستها الخارجية، فخاضت حربين ضدّ إسرائيل، ورعت مشروع إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، ودعمت فصائل المقاومة بالمال والسلاح والقرار السياسي، وفكت طوق الحصار والقتل عن مقاتليها في الأردن صيف العام 1970، وقدمت الدعم للحركات الوطنية في المغرب العربي وللثورة الجزائرية خاصة، ناهيك باليمن وحركة التحرر الوطني في أفريقيا. ورعت ميلاد حركة عدم الانحياز في العالم الثالث، وأطلقت أول تجربة وحدوية عربية رائدة في التاريخ الحديث (الوحدة المصرية – السورية). وأسَّست فكرة التضامن العربي، في إطار جامعة الدول العربية، على قاعدة التمسك بالثوابت القومية وعدم التفريط فيها.

ولقد كان لهذا المشروع النهضويّ الذي حملته الناصرية في النطاقين الوطنيّ والقوميّ وقطعت فيه أشواطاً، تأثيراتٍ بالغةٌ في مجمل الوضعِ العربيِّ: الشعبيِّ والرسميّ. فبقدر ما حَمَل الفكرةَ القوميَّةَ النهضويَّةَ إلى الآفاق الرحبة وكرَّسها في الرأي العام واسْتَوْلَدَ جمهورَها العربيّ، بقدر ما قدَّم مثالاً مرجعيّاً لتجارب عربية أخرى في الجزائر والعراق وسوريا جرَّبت أن تنسج على منواله.

لكن هذه اللحظة النهضوية الثانية، التي أطلقتها الناصرية في فجر النصف الثاني من القرن الماضي، سرعان ما ستتعرض للانتكاس ابتداء من حرب العام 1967، وخاصة بعد رحيل عبد الناصر والانقلاب على مشروعه في مصر وبَقية البلاد العربية منذ عقد السبعينيات من القرن العشرين الماضي.

4 - من أجل البناء على مكتسبات وتراكمات مشاريع النهضة السابقة

إذا كانت فكرةُ النهضة قد وُئِدَتْ وأجْهِضَتْ تجربتان منها (في مطلع القرن العشرين وفي نصفه الثاني)، فليس ذلك خاتمةُ المطاف. بل من الواجب التحرر من النظرة العدمية وإعادة قراءة التجربتين في ممكناتهما التاريخية، وفي أفق البناء على ما أنجزتاه من مكتسباتٍ للانطلاق بمشروعٍ نهضويٍّ جديد يستأنف ما بدأته التجاربُ السابقة. ونقطةُ الانطلاق في هذا الجَهْد هي النظر بعين النقد لمجمل العوامل والأسباب التي أخذت تجربتيْ النهضة العربية إلى الإخفاق.

أ- تحليل أسباب وعوامل إخفاق مشاريع النهضة السابقة:

لقد انتهت تجربة النهضة الأولى، التي انطلقت منذ محمد علي وحتى "الثورة العربية" أثناء الحرب العالمية الأولى، إلى ما انتهت إليه من إخفاق نتيجة جملةٍ من العوامل السياسية والفكرية نرصد منها أربعة رئيسَة:

أول هذه العوامل اجتماع القوى الغربية الاستعمارية, حتى المختلفة فيما بينها , على إجهاض مشروع محمد علي بالقوة العسكرية العارية , والتفكير الجدي بإقامة حدّ فاصل ديموغرافي وجيوسياسي وافد وعدواني بين مشرق الوطن العربي ومغربه , حيث تجسد هذا المشروع بإقامة الكيان الصهيوني في فلسطين

وثاني هذه العوامل هو فشل فكرة "الثورة العربية" وتجربتها، واصطدامها بزيف الوعود البريطانية بدعم قيام الدولة العربية في حال تحالفت الحركة العربية مع بريطانيا في الحرب ضد تركيا. وبدل أن تقوم الدولة العربية، سقطت الأقاليم العربية في المشرق العربي – الواحدة تلو الأخرى – في قبضة الاحتلال الاستعماري: البريطاني والفرنسي. قبلها، كانت أقطارٌ عربية كبيرة قد سقطت تحت سيطرة الاحتلال الأجنبي الجزائر و مصر وتونس وليبيا والمغرب. ولقد أنهى احتلال هذه البلدان تجربة النهضة ، وأعاد المحاولة إلى نقطة الصفر.

وثالثها ما أعقب سقوط المنطقة في قبضة الاحتلالِ الأجنبيِّ من عملية تمزيقٍ كيانيٍّ لأوصالها الجغرافية والبشرية على نحوٍ قاد إلى تجزئتها وإلى استيلاد دويلاتٍ قطرية قوامُها تكويناتٍ عصبوية: طائفية ومذهبية وعشائرية مُنْتَزَعَة من بنية الجماعة الوطنية الجامعة ومقذوفاً بها إلى علاقاتٍ أخرى اجتماعية – سياسية لا ترى نفسها فيها إلاّ بوصفها أقليات منغلقة على عصبياتها. وهكذا انتقلتِ المنطقةُ من طُوبَى النهضة والتقدم، التي بَدَأَتْها في القرن التاسع عشر، إلى حيث تعيش مسألةً كيانية أسوأَ حتى من تلك التي عاشتها إبَّان سياسة التتريك حين انْفَلَتَتِ النزعةُ الطُّورانية من عِقَالها.

ورابعها تراجُعُ الفكر الاجتهادي الإصلاحي، منذ مطلع القرن العشرين، بعد غياب محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وانقلاب محمد رشيد رضا على الإصلاحية الإسلامية، في عشرينيات القرن الماضي، مع بداية تنظيره لدولة الخلافة على حساب الدولة الوطنية. ولقد طال هذا التراجع الفكر الليبراليَّ ذاتَه أمام هجوم الفكر المحافظ: ومحاكمة كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي" وكتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرَّازق مثالٌ لذلك الهجوم.

أما المشروع النهضوي الثاني - الذي قادته مصر الناصرية – فتعرَّض للانتكاس لجملة أسبابٍ وعوامل لعلّ أهمها:

أولها أنه جُوبِهَ مجابهةً حادة من طرف القوى الامبريالية والصهيونية التي نجحت في إلحاق ضربتين موجعتين به هما: الانفصال في أيلول/سبتمبر1961 وعدوان حزيران/يونيو1967. وهو في هذا يشبه مشروع محمد علي وإبراهيم باشا. كلاهما لم يبدأ سقوطه من الداخل (وإن كان ذلك الداخل غيرَ مُجَهَّزٍ بمؤسسات تحميه)، وإنما بضربة عسكرية من الخارج: من فرنسا وبريطانيا المتحالفتين مع غريمهما العثماني في حالة محمد علي، ومن أمريكا و"إسرائيل" في حالة عبد الناصر.

وثانيها تأجيلُه مطلب الديمقراطية واعتبارها دون قضية التنمية أولوية

وثالثها الدعم الكثيف الذي تلقته قوى الثورة المضادة والنخب الرجعية من أمريكا للانقضاض على ذلك الميراث النهضوي وإعادة جدولة الأولويات: الصلح مع أمريكا و"إسرائيل"، والرأسمالية المتوحشة العالمية وقواها في الداخل، والتمسك بالدولة القطرية كمقدَّس سياسي. والأنكى أن بعض تلك القوى والنخب خرج من رحم الثورة نفسها!

ورابعها أن الصراع الذي نشب بينه وبين قوى الإسلام السياسي واليسار لم يُمكِّن من استيلادِ تحالفٍ عريض يضم سائر القوى ذات التمثيل الأصيل والفعالية السياسية تحمل ذلك المشروع وتنهض بمهمة تحقيقه.

لقد أرهقته تناقضاتُه الداخلية لا شك. لكن الضربة القاضية التي أطاحت به كانت من الخارج. . وفي ذلك ما يعني أن القوى الامبريالية والصهيونية تقف مترصدة كل محاولة عربية للنهضة وتجهِّز النفس لإسقاطها في المهد مستعملةً لذلك الوسائل كافة.

ب- تعظيم عوامل القوة في تلك المشاريع وإعادة تثميرها

إن المآلات التي آلت إليها تجارب النهضة السابقة لا ينبغي أن تحجب عنّا ما راكمته من مكتسبات، وما كان فيها من عوامل قوة تحتاج اليوم إلى استعادةٍ وتطوير، وإلى استدخالٍ لها في مشروع جديد. إن أحداً لا يملك اليوم أن يجحد حقيقة أن الحقبة الليبرالية بين الحربين نَبَّهَتْنَا – ولو متأخرين – إلى أهمية مسائل مثل الحرية والدستور والتمثيل النيابي. وأن الحقبة القومية تمثلت تمثُّلاً خلاَّقاً مطالب الوحدة القومية والاستقلال الوطني والقومي والتنمية المستقلة. وأن التيار اليساري قدَّم مساهمة رائدة في بناء رؤية نظرية لمسألة الاشتراكية والتوزيع العادل للثروة. وأن التيار الإسلامي قدَّم رديفاً لها في تشديده على مسائل الهوية والثقافة والجماعة والتنبيه إلى أهميتها. والمطلوب اليوم هو تعظيم تلك المكتسبات من خلال تطويرها واستدماجها في مشروع نهضوي واحد يعيد إقامة علاقات التلازم والترابط بينها بدل علاقات التنافر والتضاد شريطة إخضاعها للنقد الموضوعي والمراجعة الفكرية والسياسية.

5- في المشروع النهضوي العربي الذي نريدُه

المشروع النهضوي الذي تتطلع إليه الأمة اليوم هو المشروع الذي ترى في مرآتِه مسْتَقْبَلَها. وهو إذ يُفْصِح عن تطلعاتها إلى واقعٍ تكون فيه مشارِكةً في التاريخ وذاتَ دورٍ فيه مناسبٍ لصورتها عن نفسها كأمةٍ ذات رصيد تاريخيّ، فهو يستوعب كافة الأهداف والمطالب التي حملتها ستة أجيال عربية – في العهد الحديث والمعاصر – وناضلت من أجل إنجازها (فنجحت في بعضها وأخفقت في أغلبها)؛ لكنه يعيد بناء الصلات والعلائق بينها بشكل جديد.

أ- طبيعةُ المشروع النهضوي وأهدافُه

يبرّرُ فكرةَ مشروعٍ نهضوي عربي ما تعانيه الأمّة من ضَعْفٍ ووهن في أوضاعها، ومن ضياع وذهول في الرؤية إلى ما ينهمر عليها من نكبات وتراجعات. وحين تكون الأمة بهذا الحجم من التراجع والضياع والتِّيه على الرغم مما تضمه من قوى حية، تحتاج إلى بوصلة تهتدي بها وترشِّد بها فاعليتََها. وليس غير مشروعٍ شاملٍ واستراتيجي، مثل المشروع النهضوي، يقدم لها – وللقوى الحية فيها – مثل تلك البوصلة.

يمثل المشروع النهضوي هذا ردّاً على معضلات ستّ فرضت نفسها على الواقع العربي وعلى العقل العربي منذ قرنين: الاحتلال، والتجزئة، والتخلف، والاستغلال، والاستبداد، والتأخر التاريخي. الاستقلال الوطني والقومي هو الجواب التاريخي عن حالة الاحتلال. والوحدة القومية هي الردّ الاستراتيجي على التجزئة الكيانية التي باتت هي الأخرى مهددة بتجزئة دون قطرية. والتنمية المستقلة هي بديل التخلف والتنمية القاصرة في ظل العولمة. والعدالة الاجتماعية هي نقيض الاستغلال والفوارق الطبقية الفاحشة التي تعمقت في ظل محاولات فرض نموذج ليبرالي بدعوى تحقيق الكفاءة الاقتصادية. والديمقراطية هي السبيل الوحيد لمشاركة الأمة في صنع مستقبلها. والتجدد الحضاري هو الحلّ لمعضلة التأخُّر التاريخي والانحطاط. هي أهدافٌ ستة – إذن – تلك التي تؤسّس المشروع النهضوي العربي وتَحْمل على الحاجة إليه.

ب- شكل العلاقة بين عناصر المشروع النهضوي

المشروع النهضوي الذي نريدهُ منظومةٌ مترابطةٌ من الأهداف تتصل الواحدةُ منها بالأخرى اتصالَ تلازُمٍ وتَمَاهٍ. وكما في كل منظومة، لا يَقْبَلُ العنصُر الواحد من المشروع النهضوي عزلاً أو فصلاً أو مركزيةً دون تغيير مجمل المنظومة والمعنى العميق الذي يؤسِّسُها. فالعناصر جميعُها مترابطة ويقوم بينها تحديدٌ متبادَل، ولا يمكن إدراكُها إلاّ في منظوميَّتِهَا. وترجَمةُ هذه الرؤية سياسيّاً أن المشروع النهضوي هذا لا يَقْبَل النَظرَ إليه بمنطق الأولويات، لأن هذا المنطق هو – بالذات – الذي كان مسؤولاً، في ما مضى، عن اعتماد هدفٍ معيّن أو أهدافٍ بعينها على حساب أخرى.

تعني منظوميّةُ المشروع النهضوي احترامَ كُلّيته، والإعراضَ عن كل مقاربةٍ له بمقتضى فكرة الأفضلية، وعدم المقايضة بين عناصره وأهدافه: تلك التي أوقعت مشاريع النهضة السابقة في تناقضاتٍ ذاتية ذهبت بوهجها الثوري وأساءت – في بعض الأحيان – إلى صورتها وشرعيتها. إنه المشروع الذي ينبغي إدراكه بوصفه هدفاً واحداً لا يقبل التجزئة وإن كان يقبل التمرحل الموضوعي. وفي هذا السياق ينبغي أن تتكاتف جهود كافة القوى الحية المؤمنة به للنضال من أجله في إطار حلفٍ عريض ("كتلة تاريخية") يكون المشروعُ إياهُ برنامجَها ومرجعَها.

ثانياً التجدد الحضاري :

حصل للحضارة العربية – الإسلامية الظهور والتألق والتفوق في العصر الوسيط بفعل الديناميات العميقة التي حركت فيها إرادة البناء والتقدم والخروج إلى العالمية. كانت دعوة الإسلام واحدة من تلك الديناميات التي حوّلت نشر عقيدة التوحيد إلى رسالةٍ حملها العرب الفاتحون إلى الآفاق. وكان تشبُّع العرب الفاتحين بثقافات الشعوب، التي فُتِحت أراضيها – عنوةً أو صُلْحاً – واحْتُكَّ بها احتكاكاً، واحداً من الأسباب التي تغذّت منها حضارة العرب والمسلمين وأطلقت فيها دينامية البناء والتقدم. ثم كان التراكم الثقافي والعلميّ الهائل، وحركة التدوين والترجمة، وتطوُّر الصنائع والحرف، وتوسُّع نطاق التجارة بعيدة المدى مع العالم الخارجي، عوامل أعادت إنتاج حركة التطور الحضاري. وإذا كان ثمة ما ميَّز الحضارة العربية – الإسلامية في عهدها، وسمح لها بالبقاء فترة طويلة من الزمن، فهو قدرتُها على التجدُّد الذاتي بالعوامل نفسِها التي ذكرنا، وخاصة منها انفتاحها على غيرها من الحضارات، والأخذ منها دونما شعورٍ بالنقص أو الدونية. ولم تبدأ حركة النهضة والحضارة في التراجع إلا بعد أن انكفأت إلى الداخل بفعل الضغط الخارجي على مركز الدولة، وبفعل الانقسام الداخلي وصراعات السلطة، وانهيار مركز الخلافة، وقيام الإمارات، وما أعقب ذلك ونَجَم عنه من انكفاءٍ ثقافي إلى أفكار السلف وإلى ثقافة الحواشي والمختصرات، ومن تشديد الخناق على تيارات العقل والاجتهاد والإبداع.

واليوم ما يزال مشروع النهضة والتجدُّد الحضاري يفرض نفسه على الأمة ويدعوها إليه سبيلاً وحيداً إلى التحرر من أصفاد التأخر والانحطاط.,وهناك سببان على الأقل يبرران الحاجة إلى التجدد الحضاري

أولهما ما يعانيه الوطن العربي من تأخّر فادحٍ في البنى الثقافية والاجتماعية نتيجة تراكمات حالة الانحطاط المزمنة فيه والمنحدرة منذ قرون. إن سيادةَ الجمود الفكري والتكلس العقلي وتراجع العقل الاجتهادي، وسيطرةَ الثقافة النَّصية والأفكار التي تدعو إلى الانكفاء إلى الأصول – مفهومةً بوصفها حقائق مطلقة – وتقديسَ التراث، وهيمنةَ الخرافة والنزعات التواكلية، ورفضَ الآخر، والانكماشَ الذاتي والتشرنقَ على الهوية – مفهومة بوصفها ماهية مطلقة لا تغتني ولا تتطور - ... إلخ؛ وهيمنةَ القيم القبلية والعشائرية والطائفية والمذهبية على حساب القيم الوطنية والمعنى العصريّ للأمة , وعدمَ التشبع بروح المسؤولية...، كلها ظواهر تشي بمقدار ما أصاب العمران الثقافي والاجتماعي العربيّ من خرابٍ هائل. وكلها تَسْتَحِثُّ إرادة النهضة، لدى النهضويين اليوم جميعاً، على العمل الصابر المثابر من أجل إعادة إعمار هذا العمران المدمَّر من مدخل التجدُّد الحضاري.

وثانيهما ما يعانيه الوطن العربي من أشكالٍ بائسة من الحداثة الرثة في البُنَى نفْسِها (الثقافية والاجتماعية) نتيجة اصطدامه بالغرب وما أحدثه ذلك الاصطدام من ظواهر شوهاء في بُناه. إن سيادةَ نزعةِ التقليد الثقافيِّ الرَّثِّ للغرب، وتقديسَ الوافد واحتقارَ الموروث، والتغريبَ، والتبشيرَ غير المشروط بثقافة الآخر، والدعوةَ إلى التحديث القسري، وجَلْدَ الذات والهوية، والترحُّلَ الدائم بين النظريات الفكرية في الغرب، وتسوُّلَ أجوبةٍ ثقافية غربية على معضلات مجتمعاتنا دون وعي الفارق في البُنى والتاريخ... إلخ؛ وهيمنةَ القيم الاستهلاكية تمثُّلاً بالمجتمعات الغربية، وهي أيضاً مما يَسْتَحِثُّ النهضويين اليوم على مواجهتها وتصحيحها سعياً وراء تأسيس حداثةٍ جديدة لا تطيح بالشخصية القومية أو تمسخُها، ولا تُكْرِهُ المجتمعَ والناس على الفناء في المثال الحضاري للآخر.

1- المداخل والوسائل

إن تجدُّداً حضاريّاً يعيد استلهام كلَّ ما هو نيِّرٌ وعظيمٌ ومفيد في خبرتنا التاريخية الحضارية يحتاج، في جملة ما يحتاج إليه، إلى تحقيق أربعة أهداف:

أوّلها ممارسة نقدٍ مزدوج لسلطتين مرجعيتين تَحْكُمَان الوعي العربي منذ قرنين، وتمارسان عليه تأثيراً هائلاً إلى الحدّ الذي تشلاَّن قدرته على التجديد أو التأصيل، هما: التراث والغرب. إن النقد المطلوب هنا هو نقد النظرة إلى كلٍّ منهما بوصفه "مستودع حقائق" يكفي التوسل به للجواب عن كل مشكلات الراهن العربي! إن التراث لا ينطوي على حقائق مطلقة فوق الزمان والمكان كما يدعي خطاب الأصالة. كما أن الغرب ليس مستودع تلك الحقائق المطلقة كما يدعي خطاب المعاصرة. التراث والغرب مجالان ثقافيان نسبيان ومشروطان بالزمان والمكان ومعطيات التاريخ. والنظرُ النقديُّ إليهما ينبغي أن ينصرف إلى إدراك هذا النسبيِّ الذي يؤسّس كلاًّ منهما.

وثانيها عدم السقوط في نظرة عدميةٍ إلى التراث وإلى الغرب معاً بدعوى نقدهما. إذا لم يكن التراث والغرب مستودعيْن للحقائق المطلقة، فليس يعني ذلك إسقاط مرجعيتيْهما من الأساس، وإنما إعادةُ وعيهما بعيداً عن فرضية تفوّقِ أيٍّ منهما عن الآخر في تقديم موادّ لفكرنا ولمجتمعنا اليوم. إن الرؤية النهضوية إلى هذه المسألة تنطلق من التشديد على حاجتنا إلى فهم التراث والغرب فهماً علميّاً رصيناً دون انتقائية أيديولوجية، والبحث عن أكفل السبل إلى بناء علاقة صحيحة وصحّية بكل منهما. وفي هذا السياق، ينبغي أن يقع تواصُلٌ مستمر مع التراث من أجل معرفة منظومته وإدراكها في سياق أسئلتها التاريخية، والاستفادة من الخبرة الماضية في مجابهة مشكلاتً عرضت نفسَها على العقل والحضارة دون استنساخها؛ مثلما ينبغي أن يقع اتصالٌ مستمر مع الغرب والثقافة الغربية من أجل المزيد من معرفة منظومتهما وإدراك ما هو خاصّ فيها يرتبط بأوضاع المجتمعات الغربية وتاريخها وبُناها، وما هو عامٌّ وكونيّ يمكن اعتمادُه. وفي الحالين، إن حاجتنا كبيرة إلى تواصلٍ مجتهد مع التراث وإلى انفتاح متوازن على الحداثة والوصول من خلال ذلك إلى تركيب معرفي جديد لكل الجوانب الحية في التراث وفي الثقافة المعاصرة وفقاً للاحتياجات الحيوية للنهضة والتجدد الحضاري العربي. ومن المهمّ أن ندرك أن هذه المسألة شديدة الاتصال بهدف النهضة الثقافية. فلا نهضة ثقافية ممكنة دون إعادة تمثُّل التراث والحداثة تمثُّلاً علميّاً صحيحاً، ودون إعادة بناء صلتنا بهما على نحوٍ صَحِّيٍّ ومتوازن دون تقديسٍ أو إنكار.

وثالثُها إنهاء حالة النزاع داخل المجتمع العربي، وفي أوساط نخبه، بين العروبة والإسلام وإعادة إدراك الهوية في بعدها التركيبيّ والحضاري , فقد أنتج ذلك النزاع صراعاتٍ ثقافيةً وسياسيّةً كان المجتمع العربي في غنًى عنها لأنها مزّقتْ نسيجَه ودقتِ الأسافين بين تياراته. كما أنه لم يكن لها من مسوِّغ تاريخي لو حصلتْ مقاربتُها على نحوٍ صحيحٍ متحرِّرٍ من مطالب السياسة والتعبئة والتجييش لدى أطراف ذلك النزاع. إن الإسلام هو الذي زوَّد العرب بمشروعٍ تاريخيّ منذ الدعوة. وهو الذي قادهم إلى تأسيس دولة وحضارة كبيرتيْن.. واليوم، ما أحوج العروبة إلى تلك الطاقة الروحية الهائلة التي يحتويها الإسلام في المعركة المفتوحة من أجل التحرر الوطني والاستقلال القومي. وما أحوج الإسلام إلى دور تؤديه العروبة مشروعاً تحرريّاً وإنسانيّاً من أجل التعايش مع العالم والحوار وتعظيم القيم الإنسانية المشتركة.

ورابُعها حمايةٌ ما في الأمة من تنوُّعٍ ثقافيٍّ مصدرُهُ روافد ثقافية شعبية متنوعة في المجتمع العربي، واعتبار هذا التنوُّع عامِلَ إخصابٍ وإغناءٍ للثقافة العربية ينبغي استثمارُهُ، لا عامِلَ انقسامٍ وتهديد ينبغي وأْدُهُ باسم الوحدة الثقافية وذلك دون إخلال بضرورة العمل على تعظيم القواسم الثقافية العربية المشتركة.

2- من أجل نسقِ قيمٍ نهضوي

إن نسق القيم النهضوي الذي نعنيه، هنا، هو ذاك الذي يترجم معنى التجدُّد الحضاري الوارد أعلاه؛ أي النسق الذي يعبّر عن تلك الحالة من التوازن المطلوب بين المواريث والمكتسبات، بين الخصوصية والكونية، المتمسك بشخصيته والمنفتح على العالم. وهكذا فإن نسق القيم النهضوي لا بدّ من أن يكون في الآن نفسه معبِّراً عن الشخصية العربية – الإسلامية، متمسكاً بالقيم الكبيرة فيها المستمدة من التراكم الاجتماعي والثقافي والديني ومنفتحاً على العصر منتهلاً منه أرقى ما في قيمه ومتمسكاً بها، مستدمجاً إياها في منظومته (ومنها قيم الحرية، والتسامح، والاختلاف، والمسؤولية، والاستقلال الذاتي للشخصية، والإنتاج...).

وقد يكون من تحصيل الحاصل القول إن الهوية – أية هوية – ليست معطىً ثابتاً ونهائيّاً، وإنما هي حصيلة ما يكتسبه الأفراد والجماعات من قيم جديدة تصبح جزءاً من تكوين الهوية. إن الإسلام أضاف إلى العرب قيماً جديدة على قيم الشجاعة والمروءة والكرم والتضامن التي كانت لديهم قبل الإسلام، والتي اعترف لهم الإسلام بها باعتبارها من "مكارم الأخلاق" (كما ورد في الحديث النبوي: "إنَّما بُعِثْتُ لأتَمِّمَ مكارم الأخلاق"). ولم تلبث قيم الإسلام أن أصبحت قيم العرب. ثم إن كثيراً من القيم الحديثة التي كانت مرفوضة، قبل قرنين، من العرب والمسلمين (حرية المرأة، والاختلاط بين الجنسين، والترفيه أو الترويح عن النفس، والاقتداء بغير المسلمين في المأكل والملبس...)، باتت اليوم جزءاً من قيمهم وعاداتهم وتقاليدهم لا يسألون عن مدى شرعيتها أو مدى الأصالةِ فيها.

وإذا كان من الثابت أن نسق القيم النهضوي الذي ندعو إليه يجافي قيم التواكل والاعتماد على الغير – في قيمنا الموروثة – ويجافي القيم الغرائزية الشاذة والقيم الذرائعية والفردانية الأنانية في القيم الحديثة والمعاصرة، فمن تحصيل الحاصل القول إنه نسق القيم الذي لا يمكنه أن يرى النور إلا من خلال إعادة تأهيل مؤسسات التربية كافة – من أسرة ومدرسة وإعلام – وتزويدها برسالة اجتماعية نهضوية تقوم بها. وهذه مهمة ملقاة على عاتق النخب الفكرية والاجتماعية اليوم في الوطن العربي، في المقام الأول، دون إعفاء الدولة من مسؤوليتها في ذلك.

ولعلّ قوى المشروع النهضويّ العربيّ مدعوَّة إلى الاغْتراف من دوائر حضارية أخرى غير الغرب، وقراءة تجربتها التاريخية المعاصرة، وخاصة تجربتها في توفير أجوبة خلاقة عن إشكالية الخصوصية والكونية، الهوية والحداثة، في مجتمعاتها. ولعلّ بلداناً من الدائرة الآسيوية، مثل اليابان والصين والهند، تقدّم مثالاً لتلك الأجوبة الخلاّقة. وأهميتها تأتي بالذات من كونها مكتنزةً بالتاريخ ومواريثه، وبثقل العمق الحضاريِّ فيها، مثل المجتمع العربي، وبثراء نسق "القيم الآسيوية". أما إذا كان لا بدَّ من نماذج لمجتمعاتٍ أقرب إلى مناخنا الحضاري والديني والثقافي، ففي ماليزيا المثال الذي يستحق القراءة والاستفادة.

ثالثاً الوحدة العربية :

لكلِّ أمَّة، في أيّ مرحلةٍ من تاريخها، قضية كبيرة في الأهمية يتجه اهتمامها إليها وتتطلع إلى تحقيق الهدف المتَّصل بها. وتكون أهميتُها عادةً حصيلةَ مشاعر الناس وتفكير النخب وإيحاء الظروف المحيطة. ولقد كانت قضية الأمة العربية، منذ ميلاد الوعي القومي المشتبك مع حركة التتريك وإلى حدّ الآن، هي تحقيق هدف التوحيد القومي.

وبعد مرور عقود على ظهور المشروع القومي – الذي كرَّسها قضيةً رئيسَة – طرأت على الأوضاع في الوطن العربي وفي العالم تحوُّلاتٍ كبيرةً كان من الطبيعي أن تُلْقِيَ بتأثيراتها الكبيرة على القضية هذه: فَهْماً لها وطرائقَ ومناهجَ وأساليبَ في العمل من أجلها. وهي التحولات التي تفرض الحاجة إلى إعادة وعي مسألة الوحدة في ضوء معطياتها وتحدياتها، واشتقاق الصيغ والأساليب المناسبة لتحقيقها.

فلقد نجحت القوى الاستعمارية في تكريس التجزئة، ونجحت معها القوى المحافظة – الموجودة على رأس السلطة في الدولة القطرية – في تنمية هذه الدولة وتقويتها وترسيخها في مرحلةٍ أولى، ثم أدى أداؤها وتبعيتها ومصالحها إلى إضعافها وتعريضها للتفتيت في مرحلةٍ ثانية. وأتى ذلك كلُّه مترافقاً مع تدخُّلٍ خارجيّ معادٍ لمشروع التوحيد القومي، ومع تكريسٍ للمشروع الصهيوني في قلب الوطن العربي. ولم تستطع جامعة الدول العربية أن تخترق السقفَ السياسيَّ الذي رسمتْهُ لها السياساتُ العربية المحكومة بخلفياتها المحلية، ولا أن تُطْلق آلياتٍ توحيديةً تتخطى عقبة السيادة والأمن في حدودهما القطرية إلى توليد فضاءٍ قوميٍّ أرحب للعلاقات الاقتصادية والسياسية والأمنية..كما أدت جريمة فصم عرى الوحدة السورية –المصرية إلى تعطيل آليات التوحيد في مجمل أقاليم الوطن العربي وأعقبتها محاولات أخرى فاشلة للوحدة بين بلديْن أو أكثر لم تكن مزوَّدة برؤية قومية أو إرادة سياسية. ثم بَدَا كما لو أن الميْل الوحدوي بدأ يتجه نحو صيغة التجمعات الإقليمية الفرعية، بدل الفضاء العربي الجامع، قبل أن يعلن ذلك الميْل عن حدوده المتواضعة وخاصة في أعقاب أزمة الخليج وحربه (1990 – 1991).

وثمة جدل حول ما إذا كان زحف العولمةِ حَمَل معه تحدياتٍ قد تكونُ دافعةً نحو أشكالٍ جديدةٍ من الممانعة والتوحيد في مناطقَ مختلفةٍ من العالم، وخاصة في المراكز الصناعية والرأسمالية المتقدمة. فقد وُلِدَ في أحشائه "الاتحاد الأوروبي"، الذي أخذ في التوسع شرقاً، ونشأت بالتوازي معه تجمعات إقليمية ضخمة مثل اتفاقية التجارة الحرة لشمال أمريكا "النافتا" ومجموعة دول جنوب شرق آسيا "الآسيان". ولم تلبث أمريكا اللاتينية أن شهدت أشكالاً من هذه الدينامية التوحيدية بين مجتمعاتها. وهو ما قد يرتب اعتقاداً بأن العولمة إذ تطيحُ بحصون الأوطان والحدود وسياداتها، وتميل إلى استلحاق الهوامش بالمراكز، تفتح الباب – في الوقت نفسه – أمام خيار التجمُّع والتوحيد بحسبانه الخيار الوحيد الذي تبقَّى في حوزة الدول والمجتمعات لكفّ الآثار السلبية للعولمة وتأهيل نفسها للبقاء وللمنافسة. ومع ذلك فإن حصيلة السعي لتجسيد هذا الخيار على الصعيد العالمي تبدو محدودة وهو ما يشير إلى الصعوبات التي تكتنف هذه العملية ناهيك عن السياق العربي الذي تنشط فيه قوى الهيمنة العالمية سعياً إلى تمزيق النظام العربي أو إلحاقه بأطر أوسع غير عربية.

إن حقائق التراكم الذي حققه النضال من أجل الوحدة، وتجارب الإخفاق أو الانتكاس التي تعرَّض لها، والتحديات الكونية الجديدة التي تفرض نفسها عليه، تؤسّس الحاجة مجدَّداً إلى إعادة صوغ مطلب الوحدة في ضوء دروس الماضي ومتطلبات المستقبل، وذلك من خلال تجاوز الأسباب الذاتية التي أعاقت بناء المشروع القوميّ الوحدويّ على أسس صحيحة وواقعية، والاستفادة من دروسها في عملية إعادة البناء.

1- في ضرورة الوحدة العربية

ويرتبطُ بهذا المبدأ القول إن الوحدة ضرورة حيوية ووجودية للأمة العربية. وليس مصدر هذه الضرورة ما يقوم بين العرب – على اختلاف أقطارهم وطبقاتهم – من عوامل الاشتراك في اللغة والقيم الثقافية والموروث التاريخي والحضاري فحسب، بل تفرضها عليهم المصلحة المشتركة: تحديات الحاضر والمستقبل في ميادين التنمية الاقتصادية والعلمية والتقانية والأمن القومي وضرورات البقاء؛ مثلما يرتبط به القولُ إن الوحدة القومية حقٌّ شرعيٌّ ومشروع للأمة العربية لأنها تعرضت للتجزئة الاستعمارية، وجرى تقسيم وحدتها الجغرافية والبشرية بالعنف. وهي حين تناضل من أجل حقها في التوحيد القومي، فهي تفعل ذلك أُسْوَةً بغيرها من الأمم التي أنجزت وحدتها القومية. إن الوحدة العربية ليست ضرورية فقط لأننا أمة لها عوامل توحيدية من مواريث تاريخها، بل أيضاً لأننا نحتاج إليها من أجل النهوض الوطني و التنمية ورفع مستوى المعيشة للمواطن، ومن أجل حماية الوطن والشعب والدفاع عن الوجود القومي والمصالح المشروعة.

وكما أن الوحدة العربية ضرورية للأسباب البديهية التي ذكرنا، فهي ضرورية لسببين لا سبيل إلى إنكار ما ينجم عن فعلهما من آثار بالغة السوء بالنسبة إلى مستقبل الوطن العربي ومصير الأمة:

أوّلهما الفشل الذريع الذي منيت به الدولة القطرية في الجواب عن معضلات التنمية والأمن والتقدم الاجتماعي. وهو فشلٌ ناجمٌ عن هشاشة تكوينها، وعن محدودية مواردها الاقتصادية وقواها البشرية، وعن انغلاقها الكيانيّ على نفسها مخافة تأثيرات علاقاتها بمحيطها العربي. فلقد باتت الدولة القطرية عَالَةً على نفسها نتيجة ما حصَّلته من نتائج، وبات خروجُها من مَحْبِسِها الذاتيّ الخانق نحو علاقةٍ أفقية عميقة بنظيراتها في الوطن العربي شرطاً لخروجها من حال الاندحار. على أن يكون واضحاً أن هذه العلاقة لن تؤتي ثمارها المرجوة ما لم تحكم "الدولة الوطنية/ القومية" بواسطة نظام صالح.

وثانيهما الوطأة الشديدة للتحديات الجديدة التي أطلقها زحف العولمة على العالم، وفي قلبها تحدّي الإطاحة بالحدود والأوطان وإلحاق اقتصادات العالم بالمراكز الرأسمالية الغربية إلحاقَ أذْنَاب، وإفقاد تلك الاقتصادات دفاعاتها الذاتية ضد الاستباحة الخارجية أو قدراتها على المنافسة. وليس أمام الوطن العربي لكفّ آثار ذلك الزحف الجارف للعولمة سوى الوحدة أفقاً وحيداً وآليةً دفاعية للبقاء.

إذا كانت الوحدة ضرورية لكل هذه الأسباب، فإن أوّل ما يطرح نفسه على حركة النضال من أجلها أن تعيد وعيَ العلاقةِ للثنائية الأساس الحاكمة للوعي الوحدوي العربي: ثنائية القومي/القطري، بما يبدّد الكثير من التباساتها التي لم يستفد منها نضالُنا القومي.

2- في العلاقة بين القوميّ والقطري

لقد أثبَتت التجربة التاريخية أن الدولة القطرية (أو الدولة الوطنية) لا يمكن أن تزول من الوجود لمجرَّد أن معظمها نشأ نشأة غير شرعية كحصيلةٍ لفعل التجزئة، ولا لمجرد وجود إرادة وحدوية في زوالها. ذلك أن هذه الدولة نجحت – عبر أجيال ثلاثة – في بناء بعضٍ من شرعيتها (شرعية الأمر الواقع) التي تمدها اليوم بأسباب البقاء. خاصة في ظل تأييد القوى الدولية والداخلية المتضررة من المشروع الوحدوي العربي بما في ذلك العمل على منع أية أشكال وحدوية تتعارض مع مصالح تلك القوى. مثلما أثبتت التجربة أن خوف الدولة القطرية على نفسها من الزوال بعملية توحيدٍ قوميّ لا يزيدها إلا استنهاضاً لفاعلياتها الدفاعلية والانكفائية في وجه الفكرة القومية والمشروع الوحدوي. ثم إن الفكرة القومية التقليدية عن الوحدة العربية: الذاهبة إلى استهداف الدولة القطرية والمتطلعة إلى زوالها، لم تقدم شيئاً للمشروع التوحيدي ولا فتحت أفقاً أمام تحقيقه. ولقد آن الأوان لإعادة النظر في ذلك الموقف التقليدي من الدولة القطرية على قاعدةِ الاعتراف بها والمصالحة معها ككيانٍ واقعي، والانطلاق في العمل الوحدوي منها كخامة أو كمادة وليس على أنقاضها. مثلما آن الآوان للتسليم بقاعدة جديدة في المشروع القومي التوحيدي مقتضاها أن بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة يشكل المدخلٌ نحو الوحدة العربية وليس العكس.

إن المبدأ الذي يؤسس هذه الرؤية إلى مسألة الوحدة هو أنه كلَّما أحرزت الدولة القطرية (الوطنية) تقدُّماً في بناء وحدتها الوطنية، وفي تحقيق التنمية الاقتصادية والعلمية، وفي توزيع الثروة توزيعاً عادلاً، وفي بناء أسس حياة ديمقراطية، وفي حفظ أمنها الوطني وتنمية قدراتها الدفاعية من أجل ذلك، توافرت لمشروع الوحدة العربية مقدماته التحتية الضرورية. ويرتبط بهذا القول بأنه كلما نجحت الدولة القطرية (الوطنية) في تحقيق الاندماج الاجتماعي الداخلي بين الجماعات المختلفة المكوِّنة للكيان، انفتحت الطريق أمام تحقيق الاندماج القومي. وفي الحالين، تشكل الدولة القطرية مختبر فكرة الوحدة وعيِّنَتَها التمثيلية التي تدُلُّ عليها سلباً أو إيجاباً.

وفي هذا السياق من الواضح أن الوحدة العربية تواجه الآن واحداً من أخطر تحدياتها والمتمثل في الخطر الداهم الذي يحدق بالوحدة الوطنية في عديد من الأقطار العربية سواء كان ذلك بسبب هشاشة بنية الدولة والمجتمع أو التدخلات الخارجية المباشرة وغير المباشرة، ولذلك فإن النضال الوحدوي يتعين عليه في الظرف الراهن أن يعطي أولوية لتمتين الوحدة الوطنية في داخل كل دولة عربية دون أن يتعارض ذلك مع ضرورة التحرك السريع لدفع قضية الوحدة إلى صدارة اهتمامات الجيل العربي الراهن.

وتجدر الإشارة,هنا, إلى أنّ التجربة التاريخية قد أثبتت أنّ الأنظمة الشمولية المنكفئة على ذاتها لا يمكن لها ان تكون طرفاً أو تسهم بجدية في عملية التوحيد القومي العربي, ولذلك لابدّ لهذه المهمة من مقدماتها الموضوعية ,وأولها العمل على إجراء التغيير الوطني الديمقراطي داخل الأقطار العربية وبناء الدولة المدنية الحديثة الصائرة والمتحولة إلى موقع للعمل الوحدوي

3- في المضمون الاجتماعي والديمقراطي للوحدة

لا تكون الوحدة هدفاً مطلوباً لدى الأمة إلا متى وجدت هذه مصلحتها فيها. فحين تكون الوحدة إطاراً لتحقيق السوق القومي، وتعظيم الثروة، وتحسين شروط المعيشة للمواطن، وتوفير الحقوق المدنية والسياسية وكفالتها، وتحقيق المشاركة السياسية، وتوزيع الثروة توزيعاً عادلاً بين الطبقات والفئات والمناطق، وتعزيز الأمن القومي...، تكون حينها قد قدَّمت جواباً عن معضلات المجتمع العربي، وتكرَّست هدفاً تناضل من أجله الأمة جمعاء.

وليس يعني ذلك أن الوحدة لا تقوم إلا إذا تلازمت مع الاشتراكية أو كانت ذات مضمون اشتراكيّ كما نُظِر إلى ذلك سابقاً. فالوحدة ليست مطلب الطبقات الاجتماعية الكادحة والمثقفين الثوريين فحسب، وإنما هي مطلب أغلب طبقات المجتمع. وقد تجد قوى الرأسمالية الوطنية مصلحتها فيها، بل قد تنهض بدورٍ رئيسٍ فيها على نحو ما فعلت في الأعمّ الأغلب من تجارب التوحيد القومي. كما قد تنطوي دولة الوحدة على دول ذات نظم اقتصادية–اجتماعية متباينة. ولذلك، ينبغي عدم إقامة رابطٍ تلازميّ مطلق بين الوحدة القومية كهدفٍ مشترك وجامع، وبين طبيعة النظام الاقتصادي–الاجتماعي الذي هو حصيلةُ توازنِ القوى داخل المجتمع وموضوعُ منافسةٍ سياسية وطبقية فيه، على ألا يخل هذا بأي حال باعتبارات العدالة الاجتماعية باعتبارها ركناً أصيلاً من أركان المشروع النهضوي العربي.

لكن الوحدة التي نتطلع إليها –من منظورٍ نهضوي– لا يمكن إلا أن تقترن بالديمقراطية من وجهيْن: من حيث تقوم بواسطة الرضا الشعبي ومن خلال الاختيار الحُرّ الديمقراطي (عبر الاقتراع أو الاستفتاء)، فلا تأتي بصورة فوقية أو انقلابية أو من طريق الإلحاق القسريّ؛ ثم من حيث تنطوي في تكوينها على مضمون ديمقراطيّ تَقُومُ فيه المؤسسات الدستورية المنتخبة بالدور الأساسي، ويعبّر من خلالها المواطنون عن إرادتهم بحريّة، ويشاركون في صناعة القرار وفي الرقابة على أجهزة السلطة. إن الديمقراطية هي النظام الكفيل بتحقيق مبدإ المواطنة والمساواة الكاملة في الحقوق السياسية، بما يسمح بتحقيق الاندماج الاجتماعيّ والقوميّ وتنمية ولاء المواطنين للوطن الجامع وللكيان القومي. وهي، في الوقت عينِه، النظام الذي يؤمِّن إمكانية حلٍّ قوميّ لمسائل الاندماج لدى الجماعات الإثنية في الوطن العربي داخل دولة الوحدة.

* * *

آليات تحقيق الوحدة :

إن الرؤية النهضوية لهدف التوحيد القومي تضعنا أمام جملةٍ من الحقائق لا سبيل إلى تجاهلها أو القفز عليها، وهي:

- إن تحقيق الوحدة العربية ليس نتيجة حتمية تصل إليها الأمة العربية تلقائيّاً. وإنما هو رهنٌ بتوافُر إرادةٍ ومشروع سياسيٍّ يعملان من أجل ذلك، ويعبئان كافة الموارد والإمكانات التي تهيئ الشروط لذلك.

مشروع الوثيقة الفكرية للمؤتمر العام العاشر / القسم الثاني

الخميس 05 نوفمبر 2009

آليات تحقيق الوحدة :

إن الرؤية النهضوية لهدف التوحيد القومي تضعنا أمام جملةٍ من الحقائق لا سبيل إلى تجاهلها أو القفز عليها، وهي:

- إن تحقيق الوحدة العربية ليس نتيجة حتمية تصل إليها الأمة العربية تلقائيّاً. وإنما هو رهنٌ بتوافُر إرادةٍ ومشروع سياسيٍّ يعملان من أجل ذلك، ويعبئان كافة الموارد والإمكانات التي تهيئ الشروط لذلك.

- إن تحقيق الوحدة العربية مشروع طويل الأمد يجري إنجازُه بالتدرُّج: خطوة خطوة وعن طريق التراكم. ويفترض ذلك أن يقع تَنَاوُلُ مسألة التوحيد القومي على مقتضى نظرة واقعية سياسية تتسلح بفكرة الممكن دون أن تتخلى عن فكرة الواجب.

- إن كافة المداخل إلى الوحدة ممكنة: الاقتصادية والسياسية والأمنية بحسب ما تفرضه الظروف والتطورات وديناميات العلاقات العربية – العربية. لكنها، في مطلق الأحوال، تحتاج إلى مدخل تعاونيّ عربيّ بَيْنيّ يؤسّس للترابط والتداخل بين البنى الإنتاجية والاقتصادية والأمنية والسياسية العربية ويطلق ديناميات التفاعل التراكميّ بينها.

- إن النظرة الواقعية إلى الوحدة تقوم على أساس التعدد في الوسائل والأساليب. إذ لا يوجد قانون واحد لمعالجة قضية كبرى مثل التوحيد القومي. وتعدُّد الوسائل والأساليب يعني التعامل مع معطيات الواقع حالةً حالة وابتداع الوسيلة المناسبة لكل حالة من دون أفكار مسبقة أو تعصُّبٍ أو تبسيط.

- إن الوحدة هدف للأمة: بمعظم طبقاتها وفئاتها، وبمعظم أحزابها ونقاباتها وجمعياتها وتياراتها الفكرية المختلفة. وهذه جميعُها القوى المدعوة إلى النهوض بعبء النضال من أجل تحقيق هذا الهدف، وليس لفريقٍ دون آخر الحق في احتكار هذه القضية أو استبعاد غيره تحت أي عنوان سياسيّ أو ايديولوجي.

- إن تحقيق الوحدة العربية يواجه مهمَّة ملحَّة هي حلّ المعضلات الموضوعية والذاتية التي تواجه ذلك التحقيق: معضلة التباين في درجة التطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بين الأقطار العربية التي ستصبح شريكاً في الوحدة؛ ومعضلة المؤسَّسيَّة الناجمة عن هشاشة فكرة المؤسسة في الوطن العربي وعن تضخم قوة الفرد على حساب المؤسسة؛ ومعضلة عدم التوازن في القوة (البشرية، الاقتصادية، العسكرية...) بين أطراف كبرى وأطراف صغرى عربية، والحاجة إلى حلّها بما يضمن حقوق كل طرف – خاصة الصغرى – في الشراكة الوحدوية؛ ومعضلة الخلاف بين الفصائل القومية وتشرذمها؛ ثم معضلة التدخل الخارجي المعيق، باستمرار، لمشروع التوحيد القومي.

- لذلك كله وغيره تبرز الحاجة الموضوعية والتاريخية إلى ضرورة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية كمقدمة وشرط موضوعي لا بدّ منه للانطلاق نحو العمل القومي العربي وإعادة التأسيس للعمل الوحدوي

رابعاً الديمقراطية :

إذا كان للمشروع النهضوي العربي الجديد ما يميزه عن سواه من مشاريع النهضة التي سبقته منذ القرن التاسع عشر، فهو في مضمونه الديمقراطي الذي يقوم عليه، أي في حسبانه الديمقراطية ركناً مكيناً من أركان النهضة ورافعةً من رافعاتها. كان يمكن القول، في ما مضى، إن النهضة تتحقق بمقدار ما ينجح مجتمعٌ أو أمةٌ في إنجاز التصنيع، ونشر التعليم، وبناء الجيش الحديث، وتعظيم الثروة. وقد يصحّ ذلك إلى حدٍّ بعيد. لكن الذي ثبت بالدليل التاريخي أن الطريق إلى ذلك كلِّه هي الديمقراطية بما هي النظامُ الذي يحرِّر مواطنيه من العبودية السياسية والخوف، ويطلق الطاقات الاجتماعية للإنتاج والإبداع والتنافس وتحقيق التراكم: الماديّ والمعنوي، ويعزز اللحمة الوطنية والقومية استناداً إلى رابطة المواطنة. وما أحوج الأمة العربية، التي يعطِّلُ الاستبدادُ طاقات أبنائها ويستبْعِدُهُم من المشاركة في صنع مصيرهم، إلى الديمقراطية وسيلةً لطلب التقدم ونظاماً لتحقيق الآمال النهضوية المعلَّقة منذ قرنين من الزمان، وذلك دون السقوط في شرك الوهم بأن الديمقراطية وحدها كفيلة بمواجهة كافة العقبات التي تعترض تجسيد المشروع النهضوي الجديد في الواقع العربي، فالديمقراطية شرط ضرورة وليس شرط كفاية.

1- في ضرورة الديمقراطية

حاجةُ الوطن العربي إلى الديمقراطية حاجةٌ حيوية لا غنًى عنها حتى تستقيم أوضاعُه وتنفتح أمامه سُبُل الخروج من أصفاد الكبت السياسي والاستبداد، ويتحَصَّل أبناؤهُ حقوقاً لهم أهدرتْها حِقَبُ القمع؛ فكيف إذا كان الهدف بناء نهضة: هذه التي لا طريق إليها سوى طريق التطور الديمقراطي. الديمقراطية – إذن – ضرورة تاريخية وسياسية بالمعاني الأربعة التالية:

أ- إنها ضرورة، ابتداءً، لكونها حقّاً عامّاً للشعب والأمة. فهي ليست ترفاً سياسيّاً يطلبه المواطنون العرب لهم، بل حاجةٌ أساسية لهم. إنها في جملة ما لهم من حقوق أُسوةً بغيرهم من شعوب الأرض. وهي حقوق ليست قابلة للحجب أو للانتقاص تحت أي عنوان آخر، والمساس بها في مقام العدوان عليها. وهي ليست مِنَّةً من حاكمٍ يقدّمها بالتقسيط، بل استحقاقٌ تفرضه المواطنةُ وعائداتُها السياسية على من يُفْتَرَض أنهم مواطنون يتمتعون بحقوق المواطنة. وينبغي على الدولة أن تنجزه كواجب وطني واجتماعي وسياسي لكافة المواطنين على قدم المساواة.

ب- وهي ضرورةٌ، ثانياً، لأنها الوسيلةُ الأمثل لإطلاق طاقات المجتمع والشعب، وتحريرها من السلبية والتواكل، والزجّ بها في معركة البناء الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي. فالمجتمع العربي – كغيره من المجتمعات البشرية – لا يملك أن يكسب معركة التنمية أو يجابه تحدياتها المتلاحقة دون تسخير طاقاته البشرية كافة. ولا يكون ذلك إلا بفك قيد العبودية السياسية عنها وتحرير إرادتها المُصَادَرَة، وتمتيعها بفرص المشاركة في صنع المستقبل والمصير وطنيّاً وقوميّاً.

ج- ثم إنها ضرورةٌ – ثالثاً – لأنها القاعدة التي تُبْنَى عليها العلاقة بين الدولة والمجتمع في المجتمعات الحديثة، والتي ينبغي – بالتالي – أن تقوم عليها العلاقةُ إياها في الوطن العربي. حين لا تستقيم العلاقة بين الدولة والمجتمع، فيشعر المواطنون بأنهم محضُ رعيةٍ للسلطان، وتنشأ أسباب الاحتقان والاضطراب والحَرَاك النازع نحو العنف. وحين تقوم على قاعدة الديمقراطية، يكون المجتمع في صدارة من يحمي الدولةَ ويدافع عنها على خلفية شعوره بأنها دولته. وما أكثر التحديات التي تتعرض لها الدولة في الوطن العربي اليوم وتهدّدها في وحدتها السياسية. وما أكثر حاجة الدولة اليوم إلى شعب يحميها ويَذُودُ عن بقائها. ولو أمكن أن تنتظم العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين السلطة والشعب، على مقتضىً ديمقراطيٍّ، لأمكن تحصينُ جبهة الوطن الداخلية في وجه أي خطر خارجيّ أو داخليّ. وإن الحاجة إلى الديمقراطية علاقةً بين الدولة والمجتمع هي عينُها الحاجةُ إليها لبناء العلاقة بين الكيانات العربية صوناً لوحدتها وتعزيزاً لتماسكها الجماعي في مواجهة التحديات المشتركة.

2- : الديمقراطية وتحولات الليبرالية:

ما تزال العديد من المفاهيم التي تستخدم في مجال الفكر السياسي تتعرض لاهتزازات عميقة ,نتيجة لتوظيفها تبعاً لتطورات الأحداث والمقاصد السياسية والأيديولوجية لهذه الجهة أو تلك, ممن يقوم باستخدامها بطريقة تكسبها اللبس والغموض , وأحيانا التناقض مع دلالاتها التي عرفت عنها في علم الاجتماع السياسي .

وفي مقدمة هذه المفاهيم ,ما يتعرض له مفهوم الديمقراطية من تشوهات ,منذ أن بدأ الغرب الرأسمالي يوظف المسألة الديمقراطية في أجندته الخاصة لأهداف رأسمالية للهيمنة على العالم اقتصادياً وسياسياً وبخاصة في الوطن العربي. حيث تحاول الأنظمة الشمولية المناهضة للحريات الديمقراطية,استغلال الموقف من خلال الطعن بالامتياز التاريخي لهذا المفهوم بوصفه الشرط الموضوعي لإعادة بناء الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي ,وباعتباره نظام الحكم الذي أثبت مصداقيته من بين أنواع الحكم المختلفة, وقدرته على الاستمرار والحضور الدائم وسط المتغيرات العاصفة التي يشهدها العالم في اللحظة الراهنة من تاريخه.

ومن الواضح أن مبعث هذه التشوهات ناجم عن عددٍ من العوامل الداخلية الذاتية المرتبطة بحالة التأخر التاريخي ,حيث يشكل القصور في الوعي السياسي أبرز مظاهره , وبطبيعة الأنظمة الشمولية المتحكمة في الوطن العربي ,إضافة للعوامل الخارجية الوافدة من دول النظام الرأسمالي ,والتي عمدت إلى تشويه منظومة القيم الخاصة بالحريات الإنسانية, عبر جنوحها إلى الاعتماد على مجمل آليات العولمة الراهنة, الثقافية منها, والاقتصادية والسياسية ,وإعلاء شأن أيديولوجيا الليبرالية الجديدة والمتضمنة في أبرز محاورها نظرية "نهاية التاريخ" مما هو معروف.

وتجدر الإشارة إلى أن أبرز هذه العوامل يتجلى في :

1 – التناقض في الممارسة العملية بين السياسة الخارجية والداخلية والكيل بمكيالين لدى الدول الغربية وفي مقدمها الولايات المتحدة الأمريكية, مما أدى إلى افتقاد دعواها حول إحلال الديمقراطية في العالم , إلى أية مصداقية موضوعية.

2- افتراق النهج الليبرالي لدى هذه الدول عن منظومة القيم الليبرالية في أصولها الأولى ومرجعيتها الأساسية.

3- طغيان الفكر الليبرالي الجديد ,بوصفه أيديولوجيا محتضنة للوعي الزائف ,حيث يجري الاصطفاف وفقاً لمعاييره الاقتصادية والسياسية من عدد من الأحزاب السياسية العربية.

4- إغفال هذه الأحزاب في توجهاتها الأساسية لأهمية وأولوية المسألة الوطنية والقومية. وكذلك قضية العدالة الاجتماعية.

5- تداعيات الأزمة المالية العالمية ,وسبل معالجة الليبرالية الجديدة لمفاعيلها غير المسيطر عليها.

وفي واقع الأمر تعتبر الليبرالية في زمن نشوئها وارتقاءها عقيدة مناهضة لكافة المنظومات الفكرية والسياسية والعقائدية التي تُخضع الإنسان/ الفرد لها سواء تحققت في أنظمة حكم أو سلطات دينية أو علاقات اجتماعية/ اقتصادية قائمة على الاستغلال والعسف والاضطهاد أو غيرها. وذلك بوصفها آليات متشابهة تعمل بهدف احتجاز الحقوق الطبيعية للإنسان والتي تكفل له حرية المبادرة والإبداع والعمل على صوغ مستقبله في وسطه الاجتماعي.

فالليبرالية لم تكن في أصولها الأولى نظرية أيديولوجية متكاملة وإنما أفصحت عن نفسها باعتبارها حركة إحياء لحرية الإنسان في وسطه الاجتماعي القائم على قاعدة الحق الطبيعي , و المتمايز أساساً عن الحق التعاقدي الذي انبثق فيما بعد من إرادة المجتمع بوصفه تعبير عن نهج معين لبناء الدولة الحديثة وتحقيق الاحتياجات الحيوية للمجتمع ,وذلك عبر إقرار سيادة القانون المنبثق هو الآخر من العقد الاجتماعي المدني .

لذلك لم تفصل منظومة القيم الليبرالية بين الانسان/الفرد/ المواطن وبين مجتمعه , وإنما قدمت فهماً خاصاً للعلاقة بينهما على أساس الحرية وتجلياتها المتعددة في الفكر والممارسة , في مختلف المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية . ووفقاً لهذا المنظور تعتبر الدولة حارسة وضامنة لسيادة النظام الاجتماعي , حيث تقوم بالتنظيم والتنسيق بين أوجه النشاط الإنساني المختلفة من خلال التزامها بالمحاور الرئيسية للعقد الاجتماعي وتعبيراته في الدستور والقوانين النافذة.

إلاّ أنّه ما كان بذرةً ,فحسب, في زمن النشوء والارتقاء ,وخاصةً في مجال الاقتصاد والنتائج الهامة تاريخياً للثورة الصناعية, أنتج فيما بعد ظواهر مغايرة تماماً للأصل ,إن لم تكن متعارضة لمنظومة القيم التي ذكرنا ,حيث تحولت البرجوازية المدينية الحديثة,آنذاك , إلى رأسمالية احتكارية ,كما تحولت الدولة المدنية إلى دولة استعمارية معادية ومصادرة لحق الشعوب في تحررها الوطني واستقلالها . وأضحت مجمل آليات الإنتاج والاقتصاد العالمي المتقدمة ممتلكة من قبل دول المركز الرأسمالي, كما انتشرت نظرية التفوق الأوربي في مجال الثقافة والممارسة السياسية للنظام الرأسمالي العالمي. وفي هذا الإطار العام من الانحرافات برزت النظريات العرقية والعنصرية كالفاشية والنازية التي قادت الحروب الكونية المدمرة بالتزامن مع ظهور الصهيونية بنزعتها العنصرية وأطماعها الاحتلالية الاستيطانية في الوطن العربي .

يضاف إلى ذلك ما هو بارز على المستوى النظري , ويتجلى في أنّ المسلمة الليبرالية القائلة بفكرة التطابق بين الحريات الاقتصادية والحريات السياسية ,أو فكرة الانسجام الطبيعي بين المصالح الفردية والاجتماعية ,لم تصمد أمام التجربة العملية , والتي أثبتت في الواقع نقيض ما بشرت به في عدد من الأمور الأساسية :

أولاً : احتكار فئة معينة من المجتمع للقرار السياسي في الدولة ,نتيجةً لسيطرة أصحاب المصالح الكبرى على الحياة الاقتصادية والاجتماعية.

ثانياً : اشتغال النظام الاقتصادي كلياً لصالح الفئة الرأسمالية ضد مصالح الأغلبية من المجتمع الذي لم يعد يملك السلطة ولا الموارد الاقتصادية الكافية.

ثالثاً : لقد أدى توسع نطاق الشركات العابرة للقارات والاحتكارات الكبرى في العالم ,وما ارتبط بها من تنافس اقتصادي ,وازدياد دور آليات العولمة الجديدة (صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية) أدى إلى ظهور الليبرالية الجديدة القائمة على إلغاء المكتسبات الاجتماعية في البلدان الصناعية , والعودة إلى سياسة تهميش دور البلدان النامية ,إضافةً إلى فرض شروط وإملاءات النظام العالمي الجديد في الاقتصاد والسياسة والعلاقات الخارجية, وذلك في ظل إعادة إنتاج النزعة الثقافوية التي كانت سائدة في مرحلة الاستعمار الغربي ,والتي تقوم على الزعم القائل بتفوق الثقافة الغربية والقيم المنبثقة منها على غيرها ,كما عكس ذلك كتاب هنتغتون في " صراع الحضارات"

رابعاً : الليبرالية الجديدة ,إذن, ليست مجرد مرحلة انتقالية في حاضر ومستقبل البلدان المتقدمة ,وإنما هي تأسيس جديد للعلاقات الدولية ,وقائمة على نظرية متكاملة في مجال الاقتصاد المعولم , وهي ناجمةٌ على نحوٍ ما, عن الأزمة الاقتصادية التي حدثت في عقد السبعينيات من القرن الماضي ,حيث اعتبر الليبراليون الجدد آنذاك أنّ سبب الأزمة عائدُ إلى تدخل الدولة في تنظيم الحياة الاقتصادية ,وذلك عن طريق المشاركة بقطاع عام واسع, وزيادة الإنفاق, إضافةً إلى تمويل مشاريع الضمانات الصحية والاجتماعية, مما أدى برأيهم إلى إضعاف القدرة على التنافس وسط الاحتكارات العالمية الكبرى.

لذلك فإنّ السياسة الليبرالية الجديدة حالياً, ترتبط أساساً بفكرة تخلي الدولة عن التزاماتها الاجتماعية , والسعي لخصخصة كل القطاعات العامة في التعليم والصحة ومجالات المجتمع المدني عموماً, وإخضاعها لقانون السوق والعرض والطلب, إضافةً إلى أنها ترتبط بالعمل على بناء السوق العالمية للقرية الكونية.

ومن الطبيعي أن يؤدى هذا النهج والمسار لليبرالية الجديدة إلى حدوث الأزمة المالية العالمية الراهنة, والتي تحولت إلى أزمة اقتصادية طاحنة ,نتيجةً لأسلوب المعالجة الذي انطلق ,وما يزال, من الحفاظ على مصالح الاحتكارات والشركات والطغمة المالية داخل الدول الرأسمالية نفسها ,وعلى مستوى العالم بعيداً عن الاهتمام بالمصالح الحقيقية للمجتمعات المتضررة من الأزمة وتداعياتها السلبية على شعوب العالم .إذ إن المهم لدى الليبرالية الجديدة هو إبقاء الدولة الرأسمالية ,والدول الريعية التابعة لها في موقع الخادم الأمين لمصالح الاحتكارات والكبرى والشركات العابرة للقارات المنفلتة من عقال الضبط الاقتصادي والإنتاجي الحقيقي ,ومن الاهتمام بمصالح المواطنين والدول الناشئة في أي مكان في العالم.

3- الديمقراطية نظام شاملٌ للحكم

إن الديمقراطية نظامٌ شامل للحكم لا تَقْبَلُ تجزئة عناصرها أو انتقاء بعضها دون آخر؛ ولا يوصف نظامٌ سياسيٌّ ما بأنه ديمقراطي إلا متى اجتمعت فيه المبادئ والقواعد كافة التي تقوم عليها الديمقراطية كنظامٍ سياسيّ. وثمة عناصر/مبادئ سبعة كبرى تؤسّس هذا النظام وتمنحه ماهيته:

أولها الحرية: حرية الرأي والتعبير والنشر والتنظيم...؛ أي جملة ما يجعل الأفراد مواطنين: يمارسون حقهم في مواطنتهم، من دون قيدٍ على حرياتهم إلا ما يفرضه احترامُ حريات الآخرين، ومن دون رقابةٍ على أفكارهم إلا ما كان يدعو منها إلى تهديد نظام الحريات والديمقراطية ويحرِّض على العنف السياسيّ الأهلي، ومن دون انتقاصٍ من الحق في التنظيم وتشكيل الجمعيات السياسية إلا ما كان يقوم منها على أساسٍ عرقي أو طائفي أو مذهبي أو عشائري...

وثانيها التعددية السياسية والحق في المشاركة، أي إقامة السياسة على مقتضى الحق العام أو الإقرار بأنها حق عام لطبقات المجتمع وفئاته ونخبه؛ بما يعني منع أي شكل من أشكال احتكار التمثيل السياسي من قِبَلِ حزب حاكم واحد، أو حزبٍ قائد لجبهةِ أحزابٍ "حاكمة"، وأيّ شكل من أشكال مُصَادَرَةِ الحياة السياسية وإسقاط نظام الحزبية بدعوى عدم تمزيق وحدة الشعب! ولا يكفي إقرار التعددية السياسية إن لم يُكفل حق كافة الأحزاب والمنظمات في المشاركة السياسية وفي التنافس المشروع على التمثيل السياسي وكسب الرأي العام بالوسائل الديمقراطية.

وثالثها النظام التمثيلي (المحليّ والنيابي) المشمول بالضمانات القانونية والدستورية التي تكفل:

- حرية الاقتراع لكل المواطنين البالغين حق التصويت والمسجَّلين في القوائم الانتخابية، وإحاطة العملية الانتخابية بأسباب الشفافية والنزاهة، ومنع أي شكلٍ من أشكال مصادرة الإرادة الشعبية وتزوير التمثيل إما من خلال التدخل غير المشروع للإدارة في نتائج الانتخابات وإما من خلال استعمال المال السياسي لشراء الأصوات والذمم والضمائر والتحكم في اتجاهات اختيار الناخبين.

- حق الرقابة على السلطة وممارستها من خلال وسائط الرقابة كافة: المُسَاءَلَة النيابية للسلطة التنفيذية، والرقابة على صرف المال العام، والرقابة الشعبية على إدارة السلطة.

إن النظامَ التمثيليَّ في الديمقراطيات الحديثة هو الشكل المؤسَّسيُّ للتعبير عن مبدأٍ السيادة الشعبية أو عن المبدأ القائل بأن الشعب مصدر السلطة: يمارسها عبر ممثلين ينتخبهم بحرية.

ورابعها إقامة النظام السياسي على قاعدة الفصل بين السُّلْطات واحترام استقلالية القضاء.

وخامسها التداول الديمقراطي للسلطة وإقرار مبدأ حق الأكثرية السياسية التي أفرزتها الانتخابات النزيهة في تشكيل السلطة التنفيذية وإدارتها عملاً بمبدأ أن السلطة حق عام للشعب والأمة وليست حقاً خاصّاً لحزبٍ أو فئةٍ أو أسرةٍ أو فرد.

وسادسُها الذي تتوقف عليه سائر المبادئ المذكورة، هو النظام الدستوري الذي يمثل النظام الأساس للدولة وينظِّم سلطاتها كافة والعلاقات بين أجهزتها والحقوق المدنية والسياسية لمواطنيها. وهو النظام الذي ينبغي أن توكَلَ كتابتُه إلى هيئة تأسيسية منتخبَة بعد التوافق على عقد اجتماعي مدني يضمن لهذه الهيئة مشروعيتها الدستورية ,ومن ثمّ يجري إقرارُهُ بواسطة الاستفتاء الشعبيّ عليه.

وسابعها نظام اجتماعي اقتصادي عادل يتمتع فيه المواطنون بحقوق متساوية، وفرص متكافئة على النحو الذي يوفر لهم الحماية ضد انتهاك إرادتهم السياسية، وحريتهم في التعبير عن آرائهم، واختيار من يرونه الأصلح لتمثيلهم.

إن تطبيق مبدأ من هذه المبادئ دون آخر يُسْقِط عن النظام ماهيته الديمقراطية، فالديمقراطية نظام شامل وكُلٌّ لا يَقْبَل التجزئة.

4- آليات تحقيق الديمقراطية وتعزيزها

ولتحقيق الديمقراطية، ثمة آليات من شأنها أن تهيّئ الشروط التحتية لإشاعة الثقافة والقيم الديمقراطية في المجتمع العربي، وأن تسرِّع من وتائر الضغط الشعبي في اتجاه تحقيق عملية الانتقال الديمقراطي، وأن تساهم في توحيد الجهد النضالي من أجل الديمقراطية على الصعيد القومي. ومن أهمّ هذه الآليات:

- نشر ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان وتعزيزها وطنيّاً وقوميّاً، من خلال إقرار موادها في المقررات المدرسية وفي معاهد تكوين الشرطة وأجهزة الأمن، كما من خلال تسخير وسائل الإعلام المكتوب والسمعي – البصري لهذا الغرض.

- تفعيل حركة حقوق الإنسان داخل كل بلدٍ عربي وعلى الصعيد القومي، وتوحيد جهدها النضالي وبرامج عملها على نحوٍ يتعاظم فيه تأثيرُها في مجال إنتاج رأيٍ عام ديمقراطي، وفي مجال الضغط على النخب الحاكمة من أجل إقرار حقوق الإنسان بمعاييرها الكونية واحترامها.

- إحداث آليات للعمل الديمقراطي على الصعيد القومي وإطلاق مؤسساته من قبيل إنشاء منظمة عربية لحقوق المرأة، ومنظمة عربية لحقوق الطفل، ومنظمة عربية لحماية البيئة، ولجنة حقوقية عربية موحدة لمراقبة نزاهة الانتخابات، ومجلس دستوري عربي، ومجلس أعلى للقضاة العرب، وبرلمان شعبيٍ عربي، وما شاكل ذلك من مؤسسات قومية للعمل الديمقراطي.

5- الديمقراطية كنظامٍ اجتماعي

ليست الديمقراطيةُ نظاماً سياسيّاً أو نظاماً للدولة فحسب، وإنما هي أيضاً نظامٌ اجتماعيّ أو نظام للمجتمع. ولا يكفي، من منظور هذه الوثيقة، أن ينصرف النضال من أجل الديمقراطية إلى النضال من أجل "ديمقراطية" الدولة فحسب، بل ينبغي أن ينصرف في الوقت نفسه إلى النضال من أجل "ديمقراطية" المجتمع. وقد يكون من الأولى أن يقال، في هذا الباب، إنه كلما تقدمت العلاقات الديمقراطية داخل المجتمع، تعاظمت فرص قيام النظام السياسي الديمقراطي. وفي الحديث عن الديمقراطية بوصفها نظاماً اجتماعيّاً، ينبغي التشديد على الوظائف الاجتماعية الأربع للديمقراطية.

أولها أن الديمقراطية إذْ تؤسِّس علاقة المواطنة، بوصفها علاقةً تَشُدُّ أفراد المجتمع إلى ولاءٍ عام للدولة يعلو على علاقاتهم الأهلية وولاءاتهم الفرعية، ويقيم المساواة بينهم في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن الدين والجنس والعرق، تقدِّم – في الوقت نفسه – قاعدةً لحلّ مسألة الاندماج الاجتماعي التي تعاني منها المجتمعات العربية نتيجة هشاشةِ النسيج الاجتماعي وثِقْلِ الموروث العصبويّ والتفاوت في مستوى مشاركة الجماعات الاجتماعية في السلطة. وهكذا كلما ترسخت الديمقراطية وسادت علاقةُ المواطنة، أُعِيدَ صَوْغُ النسيج الاجتماعي على نحوٍ تتضاءل فيه الانقسامات العامودية الموروثة وتَتَّسِعُ وشائجُ الترابط والاندماج الاجتماعيَّيْن. وكلما اتسع نطاق الاندماج الاجتماعي، توطَّدت أركان الديمقراطية ورسخت علاقاتُها في الدولة والنظام السياسي.

وثانيها أن الديمقراطية السياسية لا تستقيم في الوطن العربي إلاّ متى أمكن للمرأةِ أن تَخْرُجَ من هامشيتها أو تهميشها واستبعادها لكي تشارك مشاركة فعّالة في الحياة السياسية أُسوةً بالرجل. ولا يمكن لذلك أن يتم إلا بمقاومة ثقل التقليد الذُّكوريّ في المجتمع العربي، وإقرار علاقة المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والفرص كافة دون تمييزٍ أو انتقاص. إن الديمقراطية في العلاقة بين الرجل والمرأة هي رافعة للديمقراطية في المجتمع والدولة على السواء.

وثالثُها أن الديمقراطية السياسية لا تستقيم بغير إعادة تأهيل النظام الأسري والنظام التربوي على القيم الديمقراطية بحيث تسود فيه، وينتظم بها أمْرُ العلاقة بين الآباء والأبناء، بين المُرَبِّين والمتعلمين، وبحيث تصبح الأسرة والمدرسة مؤسستيْن للتنشئة والتربية على القيم الديمقراطية من أجل خلق المواطن الديمقراطي في وطننا العربي.

أما رابعها فهو أن إقامة النظام السياسي الديمقراطي ممتنعةٌ عن التحقُّق إن لم تكن أدواتُ النضال الديمقراطي نفسُها ديمقراطيةً. إن المبدأ القائل إنه لا ديمقراطيةَ من دون ديمقراطيين صحيح من غير شك. وعليه، إذا لم يكن في وسع المؤسسات الحزبية والنقابية والمنظمات الشعبية في الوطن العربي أن ترسيَ العلاقات الديمقراطية في عملها العام وفي أطرها التنظيمية، وأن ترسّخ القيم المؤسَّسِيَّة فيها، وتفتح مواقع المسؤولية فيها أمام مبدإ التداول، فكيف سيكون في إمكانها أن تناضل من أجل دولةٍ ديمقراطية، ومن أجل تداولٍ ديمقراطيٍّ للسلطة؟ بل أيةُ صدْقية ستبقى لمطالبها الديمقراطية أمام جمهورٍ يُعَايِِنُ غياب الديمقراطية فيها؟ إن تصحيحاً ديمقراطيّاً لأوضاع المؤسسات الشعبية والأحزاب السياسية في الوطن العربي، هو المدخل الذي لا مدخَلَ سواه إلى ترشيد النضال العربي من أجل الديمقراطية.

تفترض هذه الوثيقة أن المعركة من أجل النهضة تمرُّ من بوَّابة المعركة من أجل الديمقراطية وبناء دولة الحق والقانون. لكن هذه أيضاً تتلازم في الوقت نفسه مع النضال من أجل الديمقراطية في المجتمع: في الأسرة والمدرسة والنقابة والحزب والجمعية وفي العلاقة بين الجنسيْن. أما التشديد على مبدإ التلازم بين المعركتيْن، فَمَردُّهُ إلى أن كل واحدةٍ منهما تستدعي الأخرى وتتغذى من نتائجها. أمَّا الفصل بينهما بدعوى أولوية السياسيِّ على المجتمعيِّ أو العكس، فلن تكسب منه المعركة من أجل الديمقراطية سوى تَبَعْثُر الصفوف وفقدان البوصلة التي تسترشد بها.

خامساً :حول قضية الدولة المدنية والمجتمع المدني

يستحق موضوع الدولة والمجتمع المدنيين بحثاً معمقاً من جوانب مختلفة. فهناك أولاً مفهومه النظري الفلسفي. وثانياً تطوره التاريخي. وثالثاً صلته العضوية بموضوعات أخرى كالعقلنة والمدننة والحداثة والديمقراطية والمواطنة والتعددية وفصل السلطات وتداول السلطة وهيئات المجتمع المدني..الخ. وهناك رابعاً الحاجة لتوضيح علاقة هذا الموضوع بقضايا الوطنية، والقومية، والأمة، والهوية، والعقائد الدينية. وفوق هذا جميعاً هناك ضرورة لتوضيح الالتباسات الناشئة عن ظهور مفهوم الدولة المدنية والمجتمع المدني في كنف التجربة الغربية الحديثة وما أحاط بها وأعقبها من هيمنة إمبريالية كانت شعوبنا ضحيتها بامتياز. حيث قابلت النخب السياسية هذه الصدمة بخليط من المواقف يمكن وصفها بالتنافر والاضطراب العميق. لأن بعضها اندفع للتماهي بالتجربة الغربية والانبهار بها انطلاقاً من منجزاتها المدنية متجاهلاً عيوبها بأمل حل مشكلات التخلف والأوضاع الفاسدة. بينما اكتفى البعض الآخر بمقاومة آلتها الحربية والعسكرية بمعزل عن متطلبات الإصلاح الداخلي والدخول للعصر.

ومن المؤسف أن هذا الاضطراب امتد أكثر مما ينبغي مؤدياً لتشتيت قوى الأمة ومنع التفافها حول مرجعية ثقافية وسياسة تحقق التعاطي الخلاق مع احتياجاتها الداخلية وتحديها الخارجي معاً. وأدى هذا لسلسلة طويلة من الإخفاقات والهزائم التي ترعرعت في كنفها أنظمة ودعوات دكتاتورية لا تنتوي خيراً لمجتمعنا، بل هي تجعل الاضطراب السابق أكثر تعقيداً. لأن بعضها لا يتوانى عن ارتهان شعوبه في سوق الصفقات الدولية. بينما لا يتوانى البعض الآخر عن ابتزاز شعارات التحرر والمقاومة بعيداً عن سكتها وغايتها المرجوة (وهي تحقيق التحرر والوحدة والسيادة) بهدف جعلها مجرد وقود تغذي الصراع الديني والعرقي والثقافي الذي يقطع طريق شعوبنا لنيل استحقاقاتها في الحرية والعدالة والديمقراطية بذريعة أنها أفكار مستوردة وجزء لا يتجزأ من الغزو الإمبريالي ينبغي مقاومته دفاعاً عن الهوية.. والعقيدة.. والخصوصية.. والثوابت الوطنية والقومية!

1-جذور المجتمع والدولة المدنية

يمكن القول بدايةً أنّ المدنية ليست صفة خارجية نضيفها لأطر ناجزة مكتملة (كالمجتمع والدولة والأمة والوطن.. الخ) بل هي عنصر أساسي لتكوين هذه الأطر نفسها وتأهيلها لاستحقاقاتها. ويجب أن لا ننسى أن هذه الأطر لم تظهر بصورة مكتملة ونهائية مرة واحدة وللأبد. وهي ليست مخلوقات جوهرانية تقيم فوق التاريخ أو خارجه. بل هي تشكيلات وهيئات وتنظيمات اجتماعية/ تاريخية تنمو عبر التطور التاريخي الذي ينقل الجماعة البشرية لطور أعلى من العلاقات يعم جوانب حياتها المختلفة. وربما كانت الثقافة المدنية وعلاقاتها وقواعدها على رأس هذه الجوانب جميعاً لأنها تحدد كيفية النظر لأنفسنا وعالمنا وإدارة شؤوننا ومنازعاتنا على نحو يليق بالاجتماع البشري ويرعى وحدته الوطنية ويخطو به من دائرة الهمجية والإقصاء والوحدانية والاستيلاء إلى فضاء العلاقات المدنية ومستلزماتها في الحرية والتنوع والمساواة وسيادة القانون!

- عليه فإن الصفة المدنية تشكل قاعدة شرطية لأطر الاجتماع البشري الحديث دون استثناء. أي أنها لا تنحصر في إطار الدولة والمجتمع فقط بل تشمل هيئات المجتمع جميعاً بما فيها الحزب والجمعية والمنتدى والمدرسة والنقابة.. الخ. وأهم من هذا أنها قاعدة شرطية لما تحمله هذه الأطر من عقائد وبرامج ودعوات مختلفة (بما فيها فكرة الأمة والدين والقومية والاشتراكية وغيرها) إذ ليس معقولاً أن تحمل هذه الدعوات جميعاً قيماً وعلاقات جديدة تتصف بالعالمية والإنسانية وتتخطى أي تمييز من عرق أو جنس أو دين وسواه، وذلك بواسطة ثقافة أو علاقات تحت مدنية لا تتعدى الملة والطائفة والقبيلة البدائية. والواقع أن هذا الاختلال يفسر وما يزال أوخم العواقب التي تشهدها أوضاعنا العربية. وربما لهذا السبب بادر النبي (ص) لإطلاق دستور مدني ينظم دولة المدينة على قاعدة المواطنة والمساواة بين أبنائها على اختلاف فروقهم الدينية وغير الدينية. كما أكد هذا الاتجاه بدعوات متكررة لترك العرقية والقبلية (لأنها نتن) ومساواة الأبيض والأسود، والعربي والأعجمي، والرجل والمرأة (كأسنان المشط). وبرغم أنه انتقل لجوار ربه وقد أتم رسالته فقد أصر على إبقاء نظام الحكم وكيفية تنظيم الدولة شأناً بشرياً يخص عموم الأمة انطلاقاً من قواعدها المدنية في العدالة والشورى والمساواة وتطور الوعي والمصالح والعلاقات العمومية!

وبعد قرون طويلة ظهرت النهضة الغربية الحديثة لترسخ مفهوم الأمة والقومية والمجتمع (بل والدولة القومية نفسها) على قواعد المواطنة والديمقراطية وحرية الاعتقاد والدولة المدنية الحديثة. كما قامت أحدث الدعوات الاشتراكية لتكرس الانتقال للاشتراكية على قاعدة الديمقراطية والدولة المدنية واستكمالاً لها.. وليس بديلاً عنها أو انقلاباً عليها على الإطلاق!

هذه الومضات وغيرها تؤكد أن أطر الاجتماع المدني، وكذلك عقائده وأيديولوجياته ومخططاته جميعاً، ليست هياكل عظمية أو أصناماً يمكن تسخيرها لأية مآرب أو جماعات أو علاقات تحت مدنية. بل هي مرهونة جميعاً بتحقيق الشرط المدني وإغناء مستلزماته في الحرية والعدالة والمواطنة والمساواة تحت طائلة الخراب. وهذا هو المعنى الحقيقي لحكمة الباري في تكريم الإنسان بالاستقلالية وجعل الحرية شرطاً مسبقاً للإيمان بالذات الإلهية نفسها.!

عليه، لكي تحقق الحرية والمواطنة ومستلزمات الشرط المدني عموماً صدقيتها ونتائجها المرجوة، بحيث لا تكون مجرد ملاذ أو شعار مؤقت لتحقيق منفعة وقتية ثم الانكفاء عنها والانقلاب عليها، نقول إنه يتعين لهذا السبب توضيح نظرتنا للشرط المدني على مستوى مفهومه الفكري والمبدئي، وتفنيد أبرز الالتباسات والمغالطات التي تعترضه من هذه الناحية في واقعنا السياسي والثقافي.

2- مغالطة العقيدة والأيديولوجيا

- بناءً عليه نعتقد أن أبرز المغالطات والأخطار التي تتهدد المجتمعات هو إحالة شؤونها لكيان أيديولوجي خارجي يملك صفة التجريد والمرجعية والتعالي فوق الكل الاجتماعي وشرطه المدني والإنساني.

وربما يتم استيحاء هذا الكيان التجريدي من أصول تحت مدنية (كالطائفة والقبيلة والملة والعشيرة والعائلة والمذهب..الخ) أو يتم افتعاله بحجة الدفاع عن حقيقة فوق مدنية (كالعرق أو المشيئة الغيبية أو الرسالة التاريخية..الخ) لكنه سيضع نفسه في هذه الأحوال جميعاً فوق الكل الاجتماعي ويجعله مسخراً لأهدافه وليس العكس. وسوف يشكل أساساً للتمييز والوحدانية وتسويغ العنف والتنكيل الذي يتنافى مع التطور الديمقراطي والعمل المدني السلمي.. كل هذا بوصفه يملك صفة الحقيقة المطلقة والمقدس الذي لا يقبل النقاش. ويملك فوق هذا طغمة الأوصياء ومآربهم وأجنداتهم التي تشكل أساس كل نظام شمولي. سواءً تحت راية الجماعة الإلهية المختارة، أو الحزب القائد وشرعيته الثورية، أو النظام العسكري الدكتاتوري، أو العائلة المقدسة المسؤولة عن الحسب والنسب والأسرار والعادات والتقاليد.. الخ.

وأياً كان مسوغ هذه التجارب جميعاً في مراحل سابقة من التاريخ. فإن أحداً لا يستطيع الزعم أن التطور أبقى أي مبرر لها في أزمنتنا الحاضرة. بالتالي فإن استمرارها حتى اللحظة في مجتمعنا (ناهيك عن إعادة تنشيطها) إنما يشكل مظهراً خطيراً يتعدى مجرد الجمود والتخلف الاجتماعي ويدخل في دائرة الأجندات المدمرة لقطع طريق مجتمعنا إلى الديمقراطية والتطور المدني، مما يقتضي مواجهة هذه المظاهر وفضح أقنعتها ومسوغاتها الأيديولوجية من خلال مفهوم مدني لا يقبل الازدواجية والالتواء!

حيال هذا سوف يسارع بعض أصحاب المآرب السلطوية لوصم المفهوم المدني بالعدمية الدينية ومعاداة العقائد والأيديولوجيات عموماً. ومع زيف هذا الاتهام فلا ينبغي الاكتفاء بموقف الدفاع السلبي لرد هذا الاعتداء، بل ينبغي تقديم المفهوم المدني بمضمونه الإيجابي الصريح الذي يعتبر الدولة والمجتمع المدنيين مكاناً آمناً لصون الأفكار والقيم والمعتقدات والأديان والأيديولوجيات جميعاً. بل وتوفير الحرية لتقديم أفضل ما لديها، بما في هذا بلوغ سدة السلطة السياسية أو ذروة النشاط الأهلي.. شريطة الحفاظ على طبيعة المجتمع والدولة المدنية الديمقراطية، وعدم استباحتها أو الانقلاب عليها تحت أية ذريعة من أي لون أيديولوجي!

3- المجتمع المدني ومغالطة الدولة والسلطة

وتتمثل –اختصاراً - في مساواة الدولة والسلطة واعتبارهما شيئاً واحداً بهدف تصوير الاحتجاج ضد السلطة الاستبدادية والدعوة لإنهاض المجتمع المدني وهيئاته المختلفة على أنها دعوة للاستقلال عن الدولة نفسها، بل الخروج عليها وإضعاف كيانها وما إلى ذلك من الادعاءات التي تحفل بها منظومة الاستبداد وساحاتها الأمنية والإعلامية والقضائية!

والواقع أن المجتمع المدني وهيئاته جميعا هو جزء لا يتجزأ من الدولة. بل هو ركنها الحصين ومصدر منعتها. لأن الدولة تتألف من الوطن والمجتمع والحكومة. وفي أعرق الدول الديمقراطية يشكل المجتمع المدني كياناً يستقل عن الحكومة وليس الدولة. باعتبار الحكومة مجرد سلطة تنفيذية. وهي واحدة من عناصر الدولة وسلطاتها. فضلاً أنها مقعد مفتوح للتداول الديمقراطي السلمي وليس عرشاً أبدياً أو ملكية عضوداً.

وبما أن احتلال هذا المقعد مرهون بالجماعة السياسية التي تكسب الانتخابات الديمقراطية. لهذا أنشأت النظرية الديمقراطية كيانات دستورية موازية لا تقل شأناً لمنع تطاول هذه الجماعة على الدولة والمجتمع (كالبرلمان والسلطة القضائية والصحافة والنقابات وقوى الأحزاب والمعارضة، وأهم من كل هذا الرأي العام ذاته). وبناءً على كل هذا فإن الدولة الديمقراطية لا تستمد قوتها ومنعتها الحقيقية من تغول سلطتها الحاكمة، بل بالأحرى من تحقيق أقل حد ممكن من قوة هذه السلطة، وأوسع حد ممكن من قوة المجتمع.. وهيئاته.. وسلطاته المدنية والدستورية جميعاً.

بناءً عليه يتبين لنا أن تغول السلطة الشمولية، أياً كانت أقنعته السياسية والأيديولوجية إنما يشكل أزمنة تخطاها التطور وفقدت آخر براءتها التاريخية. وسواءً ظهر هذا التغوّل على مستوى السلطة الحاكمة أو القوى المناوئة لها أو مستوى الثقافة عموماً، فهو يشكل أساس الانفجارات المدمرة التي تتهدد الأمن الوطني والسلم الأهلي والمجتمع المدني في عالمنا العربي.

.. وفي هذا كله نحن لا نبحث قضية المجتمع المدني والدولة الديمقراطية، ولا قضية الاستبداد والدكتاتورية بوصفها صراع عقائد وحقائق وخصائص قارية أو عرقية هنا وهناك.. بل بوصفها صراعاً بين طرائق صالحة لخير الحياة والمستقبل، وأخرى فاسدة تتجه للضياع والمجهول..

4- دور الشباب في المجتمع المدني

يعتبر الشباب دينامو الحياة في أي مجتمع، والفاعلون الأساسيون والبناة الحقيقيون له، فكيف الحال في مجتمع مثل سوريا يصنف على أنه فتي حيث يبلغ عدد الناخبين مثلا" في الفئة العمرية (18- 35) سنة أكثر من خمسة ملايين ناخب ولا يفوتنا دور الطلبة الجامعيين في المجتمع السوري والذين يقدر عددهم في الاتحاد الوطني لطلبة سوريا وحده مثلا" بحدود 400 ألف طالب ، والشباب هي الفئة الأكثر تعبيراً عن هموم وشجون أي مجتمع، فهذه الفئة بمقتبل العمر، التي تحتاج إلى التعليم والصحة والسكن والعمل.. وغيره من أساسيات الحياة الكريمة.

وعلى الرغم من أن هذه الفئة هي الفاعل الأساسي في مجتمع يسعى للتغيير إلا أنه من الملاحظ في سوريا بُعدها عن العمل السياسي والثقافي، هذا الغياب الذي تمَّ تكريسه على مدى سنوات طويلة، جعلت من هذه الفئة غائبة أو مغيبة، عن السياسة والثقافة غير أن هذا الغياب وعلى الرغم من إمكانية ملاحظته بشكله المجرد، إلا أنه لم تتم دراسته أو بحث حجمه أو تقدير كم اللامبالاة الذي يحمله .... فأي واقع يعتري مشاركة الشباب في الحياة السياسية ؟

إن عزوف الشباب ليس عزوفا عن الحياة السياسية فقط بقدر ما هو عزوف عن ولوج الممارسة الحزبية لاعتبارات متعددة يتداخل فيها المعطى الذاتي مع المعطى الموضوعي .

تمارس الأحزاب السياسية خطابا ازدواجيا تجاه المواطنين بشكل عام وشريحة الشباب بشكل خاص فهي تقر مبدئيا بضرورة إشراكهم وهذا ما نجده في أدبيات وبرامج الأحزاب السياسية حيث تشير على تضمين الشباب المشاركة في صياغة القرارات الحزبية بيد أن ممارستها السياسية تفند هذا التوجه جملة وتفصيلا بحيث نسجل ملاحظة مركزية تسترعي الباحث في الحقل الحزبي ألا وهي تركيز الأحزاب السياسية على اللحظة الانتخابية بكيفية انتهازية .

وعلى اعتبار أن الحزب السياسي هو معترك للرأي والرأي الآخر فإن هناك غائبا أكبر عن الممارسة الحزبية ألا وهو غياب ثقافة الاختلاف وحضور ثقافة الخلاف والتنافر بين مواقف الشباب وقيادة الحزب ؛ فالأمر لا يعتبر إيجابي على التنظيم الحزبي بقدر ما ينظر إليه كتمرد والواقع عكس ذلك؛ ففي المجتمعات الديمقراطية يشكل التعايش بين التوجهات المختلفة مكسبا للأمة جمعاء وليس للحزب السياسي فقط .

إن بناء مجتمع الاختلاف لا ينبغي أن نحمل مسؤوليته فقط للأحزاب السياسية بقدر ما هو عمل جماعي ينطلق من المسجد ؛ المدرسة ؛ الجامعة...مرورا بوسائل الإعلام ...وصولا إلى الأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني.

وإلى جانب غياب الديمقراطية داخل التنظيمات الحزبية توجد إشكالية التسويق السياسي بحيث تنهج الأحزاب السياسية أساليب متجاوزة تاريخيا وإيديولوجيا .. فيما أمسى عالم السياسة اليوم تحكمه ضوابط فن التسويق السياسي وهو الأمر الغائب عن الأحزاب السياسية عندنا التي تتذرع بغياب الإمكانات المادية .وإن تعبئة الشباب في المشاركة السياسية لا ينبغي أن تخضع لاعتبارات ظرفية بل يتطلب الأمر وضع إستراتيجية شمولية تأخذ بعين الاعتبار اهتمامات الشباب وذلك ببلورة مشاريع واقعية مضبوطة على مستوى الزمان.وإن هذه الممارسات السياسوية ستفضي إلى تكريس أزمة آفة العزوف الممنهج للشباب ما لم يفتح المجال بشكل فعلي للانخراط الواعي للشباب .

وتفترض الممارسة السياسية بأشكالها ومستوياتها الموضوعية من التشكيلات السياسية طرح مشاريعها السياسية و مهماتها الموضوعية ذات البعد الواقعي والملموس لكونها فقط تمثل في اللحظة الراهنة مهمات مرحلية يفترض أن تكون مخرجاً من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المستعصية ، وفق مشروع استراتيجي بعيداً عن الدوغمائية والتعصب الإيديولوجي الذي لا يعبر عن الواقع وقضاياه الحقيقية بقدر ما يعبر عن حالات عصبوية تعيد إنتاج أشكال الممارسة السياسية المنغلقة والمتمحورة حول ذاتها مفترضة في ذاتها الحقيقية المطلقة التي تمثل مركز الحركة السياسية التي يجب أن تدور في فلكها بقية الأطراف .

ولا ريب أنّ انحسار النشاط السياسي للنخب السياسية المعارضة في أوساط الشباب وعدم قدرة المعارضة على اختراق الأوساط المدينية قد يكون أحد أسبابه الرئيسية التعارض بين البرنامج السياسي لقوى المعارضة نتيجة سيطرة الوعي الديني الإسلامي والذي يشكل حتى اللحظة المكون الأساسي لآليات وأشكال التفكير الاجتماعي بشكل عام،ويرتبط هذا الجانب مع الخوف المتأصل من الممارسة السياسية إضافة إلى الإشكاليات التي عانت منها المعارضة السياسية. إن هذا أبعد المعارضة موضوعياً عن عمقها الأساسي ذلك لتطور المدينة المتباين عن الأرياف،وبحكم كثافتها السكانية ، ولكونها تشكل نقطة تمركز الشباب التي تُمثل الشريحة الأكبر على مستوى التعداد السكاني،كما أن الشباب هم الخزان الأساسي لأي نشاط سياسي،وهم من يقع على عاتقهم التغيير الاجتماعي لأنهم يمثلون المستقبل.

وهنا يجب أن لا نتجاهل بأن المدينة بأجوائها المفتوحة والمنفتحة إضافة إلى ثقلها الاقتصادي والسياسي تعكس أشكالاً ومستويات من التفكير السياسي أنضج مما ينتجه العقل الريفي المحصور والمغلق بأبعاد ومستويات محددة ، وهذا يفترض منا التأكيد على أن الممارسة السياسية المدينية هي من يُفترض أن تقود قاطرة العمل السياسية .

ويجب التأكيد هنا بأن غياب الشريحة الشبابية عن الممارسة السياسية إضافة إلى تغييب المجتمع بمعظم فئاته لا يتحمل مسؤوليتها المباشرة التشكيلات والأحزاب السياسية المعارضة .

إن غياب الشباب عن العمل السياسي أدى موضوعياً إلى أبقاء الممارسة السياسية في أوساط كبار العمر، مما يقود بشكل فعلي إلى أزمة انعدام التواصل مع الشباب إضافة إلى انعدام القدرة على تجدد و تجديد الروح النابضة للعمل السياسي ، إضافة إلى إمكانية جفاف القاع الاجتماعي من الحراك السياسي مستقبلاً، وقد أدى الابتعاد القسري لقوى المعارضة عن الأوساط المدينية ، إلى جملة من الإشكالات التي ما زالت المعارضة تعاني منها .

5- دور المرأة في المجتمع المدني

ما تزال المرأة في وطننا العربي محرومة من المساواة في الفرص في شكل تمييزي يمكن اعتباره عائقاً أمام التقدم والازدهار للمجتمعات العربية بمجملها، فضلاً عن حرمانها فرص تطوير إمكاناتها على قدم المساواة مع الرجال ومواجهتها في الحياة العامة عوامل ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية تعوق إمكان وصولها المتساوي الى التعليم والصحة وفرص العمل وحقوق المواطنة والتمثيل.

وعلى صعيد المشاركة السياسية، يبدو أن تمكين المرأة في هذا المجال الحيوي لا يزال شكلياً إلى حد بعيد، خصوصاً أن تعيين العدد القليل من النساء في مناصب رفيعة يتم من دون أن يمتلكن سلطة حقيقية مؤثرة، كما يتم تعيين النساء في مناصب وزارية غير مؤثرة

وفي شأن التمييز والمساواة بين الجنسين، يبدو أن العديد من البلدان العربية حققت تقدماً مشهوداً نحو المساواة بين الجنسين ضمن القوانين وذلك لأن الرأي العام العربي يدعم بقوة الحقوق المتساوية للمرأة، لكن الكثير من التشريعات الوطنية في البلدان العربية لا تزال تنطوي على التمييز.

وفي واقع الحال تواجه النساء العربيات تمييزا بين الجنسين في قوانين الأحوال الشخصية أو الأسرة .كما تواجه تمييزا لناحية انتقاص حقوقها المواطنية وعدم اعتبارها مواطنة كالرجال العرب في جميع قوانين الجنسية العربية وعلاوة على عدم وجود قوانين تحمي النساء من العنف المنزلي أو التحرش في أماكن العمل وتعاقب مرتكبيه تشجع بعض قوانين العقوبات العربية على ارتكاب العنف ضد النساء وتعفي مرتكبي ما يسمى"جرائم شرف " من العقاب .

المرأة ودورها الاجتماعي والسياسي

أخيرا نقول يستحيل فصل الشأن الخاص عن العام في قضايا المرأة لأن هذا يشكل ازدواجية قانونية وواقعية فكيف تعطي الدساتير والتشريعات العربية المتعلقة بالحقوق العامة والعمل والتعليم وممارسة المهن والقوانين المدنية المرأة الأهلية الكاملة وفعليا تمارس كافة المهن والأعمال وتبرم العقود وتدير الممتلكات والمشاريع والشركات الخاصة بها وتتعامل مع المصارف وتتمكن من الحصول على القروض بدون أية شروط أو معوقات , وتأتي قوانين خاصة بعلاقاتها الأسرية لتعتبرها ناقصة الأهلية؟ وكيف السبيل لتحقيق المساواة بين المرأة والرجل في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليم والعمل وحقوق المرأة مقيدة داخل الأسرة؟. فرغم ازدياد قيام المرأة بأدوار إنتاجية خارج المنزل لا يزال الإنجاب يعتبر حقل خاص بالمرأة وتبقى رهن التمييز في دورها الإنتاجي بسبب دورها الإنجابي بينما يكرس الرجل طاقاته في دوره الإنتاجي وتقوم المرأة بدور مزدوج في المنزل وفي مكان العمل بينما يركز الرجل طاقاته في العمل فقط. فلابد من الاعتراف بدوري المرأة غير القابلين للفصل وهما الإنتاج والإنجاب حيث تعزيز المزيد من التدابير لتحقيق التماشي بين مسؤوليات العمل والأسرة وتقديم خدمات الدعم الاجتماعي بما في ذلك العناية بالطفل التي تمكن الأم والأب من الجمع بين الحياة العائلية والعمل ومشاطرة مسؤوليات العائلة بينهما. و تبقى المساواة أمام القانون مسألة أساسية وهامة وضرورة ملحة، بالنسبة للمرأة الطرف الأضعف في المجتمع والتي هي بحاجة إلى الحماية القانونية لما تعانيه من تمييز تاريخي تتأصل جذوره في مجموعة من الأعراف والممارسات التقليدية تكرس دونيتها،و تأتي هنا أهمية القوانين العادلة لتنصفها وتتولى حمايتها.

إن الحديث عن الطموح والمبادرات المطلوبة لرفع مستوى مساهمة المرأة في التنمية المجتمعية يحتاج إلى استراتيجيات شاملة ومتكاملة تلحظ كل النواقص وتعمل على ردم الهوة بين الرجل والمرأة على كافة الصعد بدءا من زيادة نسبة مساهمة المرأة في سوق العمل والمساواة في مشاطرة مسؤوليات الأسرة بينهما وتقديم خدمات الدعم الاجتماعي ومرورا بالتعليم والتدريب وصولا إلى تقديم التسهيلات المالية من قروض وغيرها ودعم مشاركتها وبفعالية في النقابات ومنظمات الاعمال والمنظمات غير الحكومية وهنا نقول إنه لايمكن الوصول إلى ظروف عمل أفضل وبدون معوقات إلا من خلال اتخاذ تدابير حماية قانونية واجتماعية للنساء وتحسين فعلي وفعال لواقع وظروف المرأة ويمكن لحزبنا في هذا المجال اقتراح المبادرات المطلوب القيام بها لتفعيل دور المرأة العربية في جميع ميادين الحياة:

1- إصدار تشريعات وطنية تكفل الحماية للمرأة بشكل يحقق التوازن بين مسؤوليات العمل والأسرة ويضمن عدم الفصل بين دوري المرأة الإنجابي والتربوي والانتاجي.

2- تعدبل قوانين الجنسية العربية واعتبار المرأة مواطنة كاملة الحقوق والواجبات لناحية اكتساب الجنسية أو فقدانها أو على الأقل إعطاء المرأة العربية المتزوجة من رجل لايحمل نفس جنسيتها الحق في منح جنسيتها لإطفالها.

3- إلغاء المواد التمييزية في قوانين العقوبات العربية وخاصة المتعلقة بالعذر المحل والمخفف والتي ينطبق عليها ما يسمى بجرائم الشرف أو الاستفزاز ومعاقبة الفاعلين وفقا لدرجة جرمهم المنصوص عليها في القانون دون منحهم تلك الأعذار. وإلغاء المواد التي توقف تنفيذ العقوبة، بحق مرتكبي الاغتصاب والفحشاء والخطف والاغواء

4 - إصدار تشريعات جديدة تعاقب على العنف ضد المراة بكافة أشكاله واعتبار العنف المنزلي جريمة يعاقب عليها القانون، وإنشاء مراكز حماية وإيواء للضحايا و العقوبات الجنسية بما يتلاءم وواقع المرأة الراهن وبما يكفل قانونياً مساواتها مع الرجل

5- إصدار قوانين تعاقب على العنف الأسري والتحرش الجنسي في أماكن العمل.

6- ايجاد لجان خاصة في أماكن العمل لتلقي الشكاوى المتعلقة بالمشاكل التي تتعرض لها العاملات ومتابعة الاجراءات القانونية بحق من يرتكب هذه المخالفات.

7- تأمين وتحسين الخدمات العامة والمساندة لعمل المرأة المنخفضة التكاليف وذات نوعية جيدة.

8- النهوض بواقع المرأة في مجال التدريب والتأهيل وربط التدريب مع حاجات السوق وإيلاء اهتمام لتدريب النساء على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وعلى المهارات المالية والإدارية والتقنية.

9- تطوير وتغيير مناهج وأساليب التربية والتعليم التي تكرس التفرقة في سبيل بناء أسرة سليمة وعصرية والعمل على رفع وعي المجتمع بأهمية عمل المرأة ودورها في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية من خلال البرامج التعليمية ووسائل الإعلام وبما يضمن القضاء على الصورة النمطية لدور كل من المرأة والرجل وتكريس مفاهيم تبادل الأدوار داخل الأسرة والمشاركة في المسؤوليات العائلية

سادساً : التنمية المستقلة

1- في ضرورة التنمية المستقلة

تعاني سورية والوطن العربي عموماً من تخلّفٍ اقتِصادي وعلميّ حادّ نتيجة السياسات الاقتصادية المطبَّقة فيه وعلاقات التبعية التي تصادر قرار الدوله إضافة للفساد الاقتصادي والإداري والمالي الذي أضحى ظاهرة غير مسيطر عليها . وينعكس ذلك كله على أوضاع فئات المجتمع كافة، وخاصة منها الكادحة والفقيرة التي يطحنها الفقر وتُرْهِقُها أوضاع التهميش؛ مثلما ينعكس على الاستقرار والتوازن الاجتماعيَّيْن وعلى سيادة الدولة نفسِها: التي يتزايد فقدانُها لقرارها الوطني بتزايُد فقدانها الأمن الغذائي وارتهانها لإملاءات القوى المالية والاقتصادية الدولية. والدولةُ – أيةُ دولةٍ – لا تملك أن تؤسس شرعيتَها، أو أن تَصُون هذه الشرعية، إلاّ متى أمْكَنَها إشباع حاجات مواطنيها وأوَّلها الغذاء والتعليم والصحة والمسكن؛ وثانيها حماية سيادتهم الوطنية والقومية من أي شكلٍ من أشكال الاستباحة التي تهدِّد بالنَّيْل من الاستقلال الوطني والقوميّ والاستقلالُ الاقتصاديُّ وجهٌ من وجوهه.وثالثها تحقيق التنمية البشرية بكامل أبعادها , ورابعها إعادة تأسيس العلاقات الداخلية على قاعدة الوحدة الوطنية الديمقراطية والتماسك الاجتماعي وإطلاق الحريات العامة والأساسية لكافة المواطنين .

إن التنمية المستقلة، بهذا المعنى، حاجة حيوية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية في الوقت نفسه بالنسبة إلى المجتمع الذي يعاني من المشكلات التي ذكرنا. إنها حاجة اقتصادية للقضاء على الفقر والتهميش والبطالة والأمية، ولتوفير أجوبة مادية عن الحاجات الغذائية للمواطنين وضمان عيشٍ كريمٍ لهم. وهي حاجة سياسية لأن تحقيقها هو السبيل الأكفل لتحصين السيادة الوطنية والقومية وحماية استقلالية القرار. وعليه، لا بدَّ من إعادة تعريف معنى التنمية المستقلة في ضوء هذا التلازم بين بُعْدَيْها الاقتصادي (والعلميّ والتِّقاني استطراداً) والسياسيّ، وفي ضوء ما بات يعنيه مفهوم الاستقلالية في عصر العولمة وتشابُك المصالح.

2- في المفهوم الشامل للتنمية المستقلة

إن الاعتقاد بأن الحديث عن التنمية المستقلة في عصر العولمة يمثل ضرباً من الخلط النظري، أو نوعاً من الحَنين غير العقلاني إلى عهدٍ مضى، اعتقادٌ خاطئ. وهو ناجمٌ عن فرضيتين مغلوطتين عن التنمية المستقلة:

أولاهما ترادف معنى التنمية المستقلة مع معنى الاكتفاء الذاتي أو الانقطاع عن العالم، وهو ما لم يَقُل به أحدٌ ممن دافعوا عنها في الماضي وفي الحاضر. وثانيتُهما تذهب إلى أن إدماج الاقتصادات النامية في السوق العالمي، على النمط الطليق الذي فرضته القوى الاقتصادية المهيمنة، يمكن أن يؤدي إلى تنمية حقة. وإذْ يجانب مفهوم التنمية المستقلة، من منظور المشروع النهضوي العربي، هذين الفهميْن الخاطئيْن لها، يستند إلى مبادئ خمسة ناظمة تؤسِّسُه وتُميِّزه:

المبدأ الأول والأساس الناظم لفكرة التنمية المستقلة هو تحرير القرار التنموي القطري والقومي من السيطرة الأجنبية، دون أن يعني ذلك الانقطاعَ عن أفضل منجزات البشرية في العالم المعاصر. ويتطلب ذلك تعبئة الموارد الذاتية للأمة وتنميتها وتوظيفها بأقصى كفاءةٍ ممكنة.

والمبدأ الناظم الثاني هو اعتماد مفهومٍ للرفاه الإنساني يتجاوز التعريفات الضيقة المقتصرة على الوفاء بالحاجات المادية للبشر إلى التمتع بالمكونات المعنوية للتَّنَعّم الإنساني مثل الحرية (حرية الفرد والمجتمع والوطن)، والمعرفة، والجمال.

والمبدأ الناظم الثالث للمفهوم يقوم على أن مصدر القيمة في العالم المعاصر قد أضحى إنتاج المعرفة أكثر من كونه ركام الموارد الأولية، أو الأرصدة المالية، أو حتى حجم الناتج الإجمالي بالتقويمات التقليدية. ومن ثم فإن خيار التنمية الجدير بالاعتبار اليوم هو إقامة مجتمعات المعرفة.

والمبدأ الناظم الرابع للتنمية المستقلة في سورية و الوطن العربي عموماً هو إنشاءُ نسقٍ مؤسَّسيّ للتعاون العربي يتوجه نحو التكامل القومي وصولاً إلى ما يمكن تسميته "منطقة مواطنة حرة عربية". كما أنه ومن المهم هنا التمييز بين مرحلتين: أولاهما تنمية تكاملية يتولاها كل قطر لتحقيق تكامل داخله وما بين الأقطار، والثانية تكامل إنمائي يتولى فيه الكيان التكاملي تسيير دفة التنمية. وتتوافق المرحلة الأولى مع مرحلة بناء المشروع النهضوي والثانية مع مرحلة تسييره. ومن ثم فإن "منطقة المواطنة الحرة العربية" تتوافق مراحل بنائها مع مراحل التكامل القومي.

والمبدأ الناظم الخامس للتنمية المستقلة هو الانفتاح الإيجابي على العالم المعاصر بغرض الاستفادة من أفضل منجزات البشرية.

بهذه الأبعاد كافة يأخذ ا حزبنا مفهوم التنمية المستقلة ويعيد التشديد عليها كهدف وكمطلب من أهدافه ومطالبه.

3- غاياتُ التنمية المستقلة ووسائلُها

الغاية الأساس للتنمية المستقلة في سورية هي تحقيق أعلى مستوىً ممكن من الرفاه الإنساني وتعظيمه باستمرار. وفي منظور الوقت الراهن، يتعين أن تحظى الغايات الفرعية التالية بأولوية حاسمة:

- توفير السلع العامة الأساسية وضمان الأمن الغذائي والمائي.

- محاربة أدواء المسار التنموي العربي الراهن عموماً مثل الفقر والبطالة والفوارق الطبقية الفاحشة الناجمة عن سوء توزيع الدخل والثروة. وهو ما يتطلب ترقية الكفاءة الإنتاجية للمواطن وللاقتصاد القطري والعربي بآنٍ واحد، والسعي في تحقيق تكامل الاقتصادات القطرية العربية.

- ضمان التناغم مع البيئة حرصاً على دوام التنمية.

وثمة وسائل أربعة لبناء التنمية المستقلة:

أولها وأهمّها إقامة التنظيم المجتمعي الذي يمكن أن يحمل غايات التنمية. وهو ما يتحقق في تضافر قطاعات المجتمع الثلاثة (الدولة، وقطاع الأعمال، والمجتمع المدني) مع خضوعها لمعايير الحكم الصالح على أن يعرف على نحو يتسق مع غايات المشروع حتى لا يضيع في خضم معايير تفرضها قوى الهيمنة العالمية. فلقد تبيَّن أن إقامة التنمية بالاعتماد أساساً على قطاع خاص منفلت ليس إلاّ سراباً خادعاً يحمل في طياته خدمة مصالح القوى المهيمنة على الاقتصاد العالمي. وعليه، لا بديل من دورٍ مركزي لدولةٍ فاعلة وقادرة في مسيرة التنمية المستقلة تضطلع بمهمة ضبط النشاط الاقتصادي والإنتاجي وربطه بالمصلحة العامة، بما في ذلك ضبط نشاط قطاع الأعمال العام. ويتفرع عن هذا النمط من "الاقتصاد المختلط" الحاجة إلى قيام جهد تخطيطي من قبل الدولة.

ثانيها بناء الطاقات الإنتاجية ، الذي يستلزم تنمية الموارد وتعبئة الادّخار المحليّ وضمان أقصى استفادة من رأس المال البشري في الداخل، مع العمل على توظيف الإمكانات العربية الهاربة، سواء في صورة رؤوس أموال نازحة أو طاقات علمية بشرية مهاجرة.

وثالثها بناء آليات التكامل العربي في جميع مجالات النشاط الاقتصادي، وبوجهٍ خاص في ترقية الإنتاجية وتعظيم التنافسية. والمقولة الشائعة إن غياب الإرادة السياسية لدى الأنظمة الحاكمة هو المعوق الأساس لتحقيق هذا التكامل، وتشير تجارب تحرير التجارة إلى أن المسئولية تمتد لتطول قطاع الأعمال من صناع وتجار أرادوا أن يفتح الآخرون أسواقهم بينما صمموا على قوائم طويلة من الاستثناءات. كذلك يجب التنبيه إلى المعاداة الخارجية لاستخدام التكامل أساساً لتنمية مستقلة.

ورابعها مواجهة المؤسسات الاقتصادية الدولية التي تطرح نموذجاً اقتصادياً ينفتح أمام عابرات القوميات ورأس المال والتكنولوجيا الأجنبية، وتقديم نموذج تنموي مستقل بديل يحظى بمؤزارة شعبية، ويخرج من مصيدة المعونات والمساعدات المشروطة، ويعيد تحديد دور صندوق النقد الدولي في إدارة الاحتياطيات الدولية، وينقل الكثير من وظائفه الإشرافية التي تمس السياسات الوطنية إلى مؤسسات قومية أو وطنية بديلة.

إن فرص نجاح التنمية المستقلة في الوطن العربي ممكنة إن توافرت شروط الحكم الصالح. ذلك أن القصور التنموي الراهن شديدُ الصلةِ بالخلل الكبير الذي يستبد بنمط السلطة وممارسة الحكم في البلدان العربية فينجم عنه التخلف والتبعية تماماً كما ينجم عنه سوء توزيع الثروة وانعدام الحياة الديمقراطية.

4- توجّهات استراتيجية من أجل التنمية المستقلة

إن إمكانات الوطن العربي من أجل بناء التنمية المستقلة هائلة على صعيد موارده الطبيعية (الطاقية والمائية والزراعية...)، وموارده البشرية (اليد العاملة النشطة)، وأرصدته المالية، وسوقه القوميّ. وهو يحتاج اليوم، وفي الأفق المستقبلي القريب والمتوسط، إلى تعزيزها وتنمية القدرة على استخدامها الاستخدام الأمثل من خلال تنمية الرأسمال المعرفيّ والعلميّ لديه وتعظيمه عبر بناء منظومة حيوية لاكتساب المعرفة. ونحن نعتقد، من منظورٍ نهضويّ، أن التربية يمكن أن تكون قاطرةً للتقدم مثلما كانت دائماً في كل المجتمعات التي أنجزت تنميتها.

وتنطلق هذه النظرة النهضوية إلى دور المعرفة في التنمية والتقدم من توجهات استراتيجية ثلاثة:

يتمثل التوجُّه الأول في بناء رأسمالٍ بشريٍّ راقِيِ النوعية. والسبيل إلى ذلك:

- تعميم التعليم الأساسي وإطالة مدته الإلزامية إلى عشر سنواتٍ على الأقل.

- إحداث نَسَقٍ مؤسَّسيّ لتعليم الكبار مستمرّ مدى الحياة.

- إيجاد وسائل، داخل مراحل التعليم كافة، تكفل ترقية نوعية التعليم بما يجعله مستوفياً معايير التكوين الراقي في المجتمعات المتقدمة.

ولا مناص، من أجل ذلك، من أن توفّر البلدان العربية موارد أضخم للتعليم وأن تزيد من كفاءة استغلالها.

والتوجُّه الثاني متمثّل في صوْغ علاقة تضافر قوية بين التعليم وبين المنظومة الاجتماعية والاقتصادية على النحو الذي يترابط فيه التعليم مع التنمية، ويتحوَّل إلى أولوية في عمل الدولة وقطاع الأعمال والمجتمع المدني. ومع أنه يصعب أن يقوم حافز الربح أساساً للوفاء بحاجات الفئات الاجتماعية الفقيرة من التعليم، إلا أن تحسين تراكم الرأسمال البشري يمكن أن يستفيد من نظام تعليمٍ وطني وقويّ، غير حكوميّ، لا يَتَغَيَّا الربح في المقام الأول. والضمان لذلك أن تتولى أجهزةٌ رقابية قوية – تشترك فيها الدولة والمجتمع المدني – ضبط التعليم الربحيّ وضمان جودته وأهدافه الوطنية.

على أنه من الضروري أن ينظر إلى العلاقة بين التعليم وبين المنظومة الاجتماعية والاقتصادية، بحيث لا تقف عند جعل التعليم مطلباً لرفع مستوى الإنتاجية، بل تعتبر التعليم ركناً أساسياً من أركان نوعية راقية للحياة، تتيح للإنسان التمتع بطيبات الحياة والإسهام في بناء نهضة حضارية متجددة.

والتوجُّه الثالث متمثل في إقامة برنامجٍ لتطوير التعليم على الصعيد العربي يقوم على أساس شراكةٍ قوية بين الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني، لأن الحاجة أضحت ماسَّة اليوم إلى قيام سلطة تعليمية فوق – قطرية وفعّالة على الصعيد العربي. وسوف يكون من المهام الأولى لهذه السلطة مواجهة الاختراقات الأجنبية لمنظومة التعليم التي من خلالها تتوارى اللغة العربية وتحل محلها قيم مجتمعية غربية تقود إلى تفتت المجتمعات المحلية.

إن هذه التوجهات الاستراتيجية هي عينُها التي تحكُمُ الرؤية إلى قطاع البحث العلمي والتقاني ودوره المركزي في عملية التنمية، والحاجة إلى تطوير هذا القطاع على الصعيد الوطني وعلى الصعيد العربي لسدّ احتياجات الوطن العربي والحدّ من اللجوء إلى استيراد ما يمكن توفيرُهُ ذاتيّاً من خبرة علمية ومن تقانة. كما أن العجز الذي يعانيه الوطن العربي في مجال الرأسمال البشري عالي النوعية، وفي قطاع البحث العلمي، فضلاً عن رؤوس الأموال، يمكن تغطيته باستعادة الكثير من الكفاءات العربية المهاجرة ورؤوس الأموال والاستثمارات النازحة. ويتعين بناء سياسة في هذا المجال قائمة على الأسس التالية:

- تقوية الأواصر بين الكفاءات المهاجرة وأوطانها.

- إنشاء برامج تحقق الاستفادة من خبرة هذه الكفاءات مع بقائها في الخارج.

- تقديم الدعم الكامل لتنظيمات الكفاءات المهاجرة حتى تصبح شكلاً مؤسَّسيّاً لعلاقةٍ ذات اتجاهين تقوم بين المهاجرين وأوطانهم.

على أن هذه السياسة ينبغي أن توازيها سياسة استراتيجية أخرى عمادُها العمل على الحدّ من هجرة الكفاءات إلى الخارج وذلك من خلال تعطيل الآليات الأساسية التي تؤدي إلى نشوء ظاهرة هجرة الكفاءات، وتوفير المناخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي المناسب الذي يؤمِّن لها فرص العمل الكريم ويشجعها على البقاء في أوطانها.

والخلاصة إن التنمية المستقلة يمكن أن تقوم على المبادئ التالية:

أولاً: يمتنع اكتمال التنمية المستقلة والناجزة تماماً في بلادنا دون تكاملٍ اقتصادي عربي، ودون توسُّعٍ في برامج التعاون والشراكة والاعتماد المتبادل وصولاً إلى أهداف السوق المشتركة والوحدة النقدية والاقتصادية. ويعني هذا أن جهود تحقيق التنمية المستقلة يجب أن تبدأ على المستوى القطري في إطار رؤية تكاملية قومية، حتى لا تكون الدولة القطرية فريسة للقوى الداعية للاندماج في الاقتصاد العالمي في المدة التي يستغرقها وصول التكامل القومي إلى صورته النهائية، على أن يكون واضحاً أن اكتمال هذه الجهود لا يمكن أن يتحقق –كما سبقت الإشارة- دون إنجاز هذا التكامل, ودون أن يكون للدولة القطرية اقتصادها الوطني الذي ينزع إلى توفير اكبر قدر ممكن من مقومات التنمية الوطنية التكاملية والمستقلة.

ثانياً: يتوقف تحقيق التنمية على سياسة وطنية وقومية شاملة تنمي الموارد الاقتصادية والبشرية كافة، وتُحْسِن توظيفها، وتأخذ بقاعدة الأولويات في البناء التنموي (التهيئة العلمية، الأمن الغذائي، البنى الارتكازية..). وتعمل على نقل الاقتصادات العربية من الطابع الريعي الذي يغلب عليه إلى الطابع المنتج.

ثالثاً: تنهض الدولة الوطنية (وفيما بعد القومية) بدورٍ مركزيّ في عملية التنمية، وتشجع على تنمية المبادرة الحرة والقطاع الخاص على أساس ترشيد دوره ومراقبة نشاطه بما يحمي حقوق المواطنين وبما يتناسب والمصلحة العامة. وفي مرحلة النضال من أجل تجسيد المشروع تكون وظيفة المؤسسات القومية هي ترشيد القرارات الوطنية التنموية وتخليصها من معوقات التناقض السياسي والتفكك الاجتماعي والتردي الثقافي والتباين الاقتصادي.

رابعاً: يتوقف نهوض الدولة بهذا الدور على وجود قطاع عام قوي متطور وقادر على التنافس في الأسواق المحلية والدولية ومتحرر من الفساد المستشري في معظم الأقطار العربية, في إطار مواجهة مجتمعية شاملة لهذه الظاهرة.

خامساًً: لا يمكن للتنمية أن تتحقَّق وأن تُجَدْوِلَ أهدافها إلاّ من خلال سياسة التخطيط التي تضعها الدولة وتحدّد استراتيجياتها العليا في الميدان الاقتصادي.

سادساًً: إن الإنسان هو مبدأُ التنمية وأداتُها وهدفُها. ولذلك، فإن تمتيعه بحقوقه وبالتعليم والتكوين الراقيَّيْن هو أفضل استثمار من أجل التنمية.

سابعاً العدالة الاجتماعية :

العدالة الاجتماعية من القيم الإنسانية الكبرى، وهي أيضاً من أهداف النهضة ومن مقوِّماتها. فليس لمجتمعٍ أن ينهض من دون أن تكون العدالةُ الاجتماعية أساساً للنظامُ الاجتماعيُّ فيه. وهي كنايةٌ عن تكافؤ الفرص في توزيع الدَّخْل والثروة، ومقاومةِ كافة أشكال التفاوت الطبقيّ والفقر والتهميش، وتنميةِ علاقات التضامن والتكافل بين أبناء الوطن. وقد توارت العدالة الاجتماعية مؤخراً في ظل تطبيق النموذج الاقتصادي الليبرالي وأصبحت مطروحة لمجرد تصحيح أخطائه فتصبح بذلك حامية لليبرالية ومسكناً للتمرد عليها، ولذلك فمن الأهمية بمكان أن نتعمق في خصائص النظم التي تفضي إلى تراجع "العدالة الاجتماعية" والممارسات المجتمعية التي تعزز هذا التراجع كي لا تكون نظرتنا إلى مسألة العدالة الاجتماعية نظرة مثالية.

1- ملكية وسائل الإنتاج في منظومة العدالة الاجتماعية:

لا يمكن للعدالة الاجتماعية، أن تتحقَّق إلاّ إذا أعيد للدولة اعتبارُها في الميدان الاقتصادي والاجتماعي، وتدخُّلها الحاسم في وضع سقُوف لملكية وسائل وأدوات الإنتاج لاتصالِ ذلك – شديدَ اتصالٍ – بالعدالة في تلبية الحقوق الاجتماعية. ولقد أكد "ميثاق العمل الوطني" في مصر (1961، الفصل السابع):

"إن سيطرة الشعب على كل أدوات الإنتاج لا تستلزم تأميم كل وسائل الإنتاج ولا تلغي الملكية الخاصة، ولا تمس حق الإرث الشرعي المترتب عليها، وإنما يمكن الوصول إليها بطريقتيْن:

أولاهما: خلق قطاع عام وقادر يقود التقدم في جميع المجالات ويتحمل المسؤولية الرئيسية في خطة التنمية.

وثانيتهما: وجود قطاع خاص يشارك في التنمية في إطار الخطة الشاملة لها من غير استغلال".

وأضاف الميثاق: "يجب أن تكون الهياكل الرئيسية لعملية الإنتاج، كالسكك الحديدية والطرق والموانئ والمطارات وطاقات القوى المحركة والسدود ووسائل النقل البحريّ والبريّ والجويّ، وغيرها من المرافق العامة، في نطاق الملكية العامة للشعب" (أي القطاع العام).

وما زال كثيرٌ من معطيات هذه الرؤية النظرية صالحاً اليوم في أية محاولة لصوْغ مشروع عربي للعدالة الاجتماعية مع كل ما لحق العالمَ والمنطقة العربية من تحولات سياسية واقتصادية وتقانية. إذ ينبغي أن توضَع سقوفٌ للملكيات الزراعية والعقارية، وحدّ أقصى لتمركز رؤوس الأموال الصناعية والتجارية والخدمية الخاصة، وذلك منعاً لِتكوُّن مراكز احتكارية في الاقتصاد العربي. على أن يُطَبَّق هذا المبدأ بقدر عالٍ من المرونة، ووفق نوعية النشاط الاقتصادي وطبيعته، دون المساس بالملكية الخاصة للمشروعات الصّغيرة ومتوسطة الحجم. كما ينبغي تحريك تلك السقوف مع مرور الزمن، وكلما دعت الحاجة والتطورات الاقتصادية إلى ذلك.

وقد أدى النكوص عن هذه الرؤية فيما يسمى بالخصخصة إلى سلب الشعب حقوقه التي رعتها الملكية العامة وتقليص الموارد المخصصة لأغراض الخدمات الأساسية والمتاحة للإنفاق الذي تستلزمه العدالة الاجتماعية، كما أفضى اللهث وراء الاستثمار الأجنبي المباشر إلى تصاعد نسبة الملكية غير الوطنية على النحو الذي أضاف للعدالة الاجتماعية بعداً وطنياً وقومياً.

2- منظومة سياسات العدالة الاجتماعية:

إذا كان وجود بنية معينة لملكية وسائل الإنتاج على النحو السابق بيانه يعد متطلباً أساسياً للعدالة الاجتماعية فإن تجسيدها على أرض الواقع غير ممكن بدون منظومة سياسات يقع في أساسها ما يلي:

أ- سياسات الإنتاج السلعي الرأسمالي والاستهلاكي بما فيه المنتجات الثقافية وتسعيرها، وتشمل تحديد دائرة السلع العامة المطلوبة، وذلك بهدف إمداد الجمهور بالسلع والخدمات الأساس، وعلى وجه التحديد: الاحتياجات الغذائية الأساس والخدمات التعليمية، والخدمات الصحية، والإسكان اللائق، والمواصلات العامة، والثقافة والترفيه.

ب- سياسات الأجور والأسعار: وتقوم أساساً على تأمين حق العيش الكريم على مقتضى مبدأ الخبز مع الكرامة ومنه الحق في الحصول على عمل منتج، والحق في أجر مناسب لقوة العمل بما يمنع استغلالها، ويضمن حداً أدنى للأجور يدفع عنها على الأقل غائلة التضخم، وبالمقابل لابد من سياسات للأسعار في مجال الاستهلاك الضروري تحقق التناسب في منظومة الأجور والأسعار، وبصفة خاصة لدى ذوي الدخل المحدود، وتضمن منع استغلال المستهلكين، وتضع حداً لممارسات التسعير الاحتكاري في فروع النشاط الاقتصادي كافة. ولابد في هذا السياق من تقوية المالية العامة للدولة بحيث تصبح قادرة على توفير جانب كبير من السلع الأساس للطبقات الوسطى ومحدودة الدخل بأسعار تتناسب وقدرتها الشرائية.

ج- إعادة توزيع الدخول في بلادنا من خلال السياسات المناسبة بما يحد من الاستقطاب الطبقي فيه، والواقع أن الفجوة في الدخول في قد تفاقمت إلى حدٍ بات يهدد الاستقرار الاجتماعي ومن ثم السياسي، وذلك نتيجة الولوج غير الرشيد في نهج ما يسمى بالخصخصة، واستباحة المال العام في غيبة الرقابة الديمقراطية وشيوع الفساد.

ويتطلب العمل على إعادة توزيع الدخل عدداً من الإجراءات من أهمها:

- إعادة هيكلة النفقات العامة، حيث تقوم هذه بدورٍ هام في إعادة توزيع الدخل، ولا سيما النفقات التحويلية التي تستمد أهميتها من تأثيرها في إعادة توزيع الدخل القومي. ويقع في قلب النفقات العامة المطلوبة دعم الدولة للسلع والخدمات، وخاصة تلك التي يستهلكها السواد الأعظم من المواطنين.

- التدخل لتنظيم العلاقات الإيجارية بين المُلاَّك والمستأجرين بما يضمن تأمين حق السكن في إطار من العدالة والاستقرار للمستأجرين.

- توفير الحقوق التأمينية ضد البطالة، وحوادث العمل، والعجز الكلي أو الجزئي بحسبانها من حقوق الإنسان الأساس. وتقوم صناديق التأمين والضمان الاجتماعي بدورٍ هام في تأمين الإنسان ضد مخاطر الحياة والخوف من المستقبل. ولذا، فإن شمول التغطية التأمينية لكافة المخاطر المرتبطة بمجريات الحياة اليومية من ناحية، ومخاطر المستقبل من ناحية أخرى، يعتبر من أهم عناصر منظومة العدالة الاجتماعية، التي تشكل الأساس المادي والمعنوي لمفهوم الأمان الاجتماعي والإنساني.

- إعادة تكييف السياسات الضريبية بحيث تتجه إلى تقليص الفوارق بين الدخول والثروات في المجتمع العربي وإلى الحد من الفوارق الطبقية.

د- إحياء دور الحركة التعاونية – بشقَّيْها الإنتاجي والاستهلاكي – التي لعبت دوراً كبيراً في الماضي خاصة في بداية القرن العشرين. وكذلك تنمية الشراكة مع قطاع الأعمال ومنظمات المجتمع المدني. واعتماد مبدأ التفاوض بين الحكومة والقطاع الخاص بهدف إحاطة مصالح العاملين بمزيد من الحماية، وبما يمكن التفكير في تضمين تلك الشروط في قوانين الاستثمار. وتفعيل دور النقابات العمالية والمهنية والاتحادات النوعية مع ضمان تمثيلها في المؤسسات العامة ذات الصلة رعاية لمصالح الطبقات والفئات والجماعات التي تعبر عنها.

هـ- التأكيد على ضرورة التزام السياسات التعليمية بضمان عدالة الفرص أمام المواطنين في مجال التعليم والتوظيف على اختلاف أوضاعهم الاجتماعية ومواقعهم الطبقية، باعتبار ذلك الالتزام ضرورة لا غنى عنها لضمان الحراك الاجتماعي على أساس عادل.

و- امتداد العدالة الاجتماعية لتشمل العدالة على أساس النوع وذلك بوضع استراتيجية خاصة للنهوض بالمرأة العربية في جميع المجالات، والعمل على تطوير قانون عربي للأسرة يضمن الحقوق الكاملة لكل مكوناتها. وكذلك امتداد العدالة الاجتماعية لتشمل العدالة بين أقاليم الدولة قطرية كانت أم قومية بما يوفر قاعدة للتماسك الاجتماعي .

ثامناً : الاستقلال الوطني والقومي

يُعَدُّ الوطن العربي أكثر مناطق العالم احتكاكاً بالعالم الخارجي وتأثُّراً بالعوامل الخارجية لعدة أسباب منها موقعه الجغرافي الذي يتوسط العالم ويتحكم في أهم خطوط مواصلاته، ومكانتُه الثقافية والحضارية باعتباره مهداً للديانات السماوية الثلاثة، ولعدد من أهم الحضارات القديمة، كما لأهميته الاستراتيجية والاقتصادية كمستودع لأكبر مخزون لاحتياطيات النفط المؤكدة في العالم. ولقد كانت هذه العوامل والمعطيات تضيف إلى الوطن العربي، في مراحل صعوده، وتدعم مكانته على المسرح الدولي. لكنها كانت تشكّل أيضاً عبئاً ثقيلاً عليه في مراحل التراجع والانكسار بمقدار ما تغري القوى الخارجية بالتدخل فيه أو بسط السيطرة عليه وإفقاده استقلاله.

لقد كان الاستقلال الوطني والقومي –وما زال– شرطاً بديهياً من شروط النهضة وركيزةً أساساً من ركائزها. إذ لا يمكن لأي شعب أن ينهض ويتقدم إذا كان فاقداً لإرادته أو كانت إرادتُه مقيَّدة، كما لا يمكنه أن يحمي استقلالية إرادته وقراره إن لم ينجح في حماية أمنه الوطني أو القومي. ولأن أيَّ مشروعٍ للنهضة هو، في جوهره، مشروعٌ للاستقلال والأمن في آنٍ معاً، فمن الطبيعيّ أن يصبح الأمن أحد أهم أهداف المشروع النهضوي العربي.

وللوطن العربي اليوم خصوصية يتعذر في إطارها إحداث فصلٍ كامل بين البعد الوطني والبعد القومي لقضيتيْ الاستقلال والأمن. ومع أن مفهوم الاستقلال الوطني يبدو أقرب إلى واقع الحالة العربية الراهنة من مفهوم الاستقلال القومي – لأن الموجود فعلاً دولٌ وطنية "مستقلة" أو معْتَرفٌ لها بالاستقلالية من منظور القانون الدولي وليس دولة عربية قومية جامعة ومستقلة – إلا أن الاستقلال الوطنيَّ نفسَه ما زال يعاني من النقص والانتقاص الشديديْن. فإلى جانب أن مفهوم الاستقلال الوطني يشمل استقلالية القرار الوطني ويفترض الأمنَ الاقتصاديَّ والغذائيَّ من مقوِّماته، وهذا مما ليس متحققاً، فإن قسماً غيرَ قليلٍ من البلدان العربية ما زالت أراضيه رازحة تحت الاحتلال: كلاًّ أو بعضاً، وما زالت سيادتُه متراوحةً بين الفقدان الكامل والفقدان الجزئي والاستباحة الدائمة! فإلى فلسطين المحتلة منذ العام 1948 من قبل الحركة الصهيونية، أضيف احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا وحليفاتهما في2003؛ بينما ظل الجولان السوري ومزارع شبعا اللبنانية قيد الاحتلال الصهيوني، وظلت مدينتا سبتة ومليلية والجزر الجعفرية المغربية محتلة منذ مئات السنين من طرف إسبانيا، وجزر "طنب الكبرى" و"طنب الصغرى" و"أبو موسى" الإماراتية محتلة من قبل إيران منذ سبعينات القرن الماضي، وخضع جزء من أراضي الصومال لتدخل إثيوبي مسلح منذ2006. وهذا إضافةً إلى أراضٍ أخرى مستلبة لم تعد الدول العربية المعنية تطالب بها من مثال لواء اسكندرونه الذي ألحق بتركيا وتم تغييبه عن الخارطة الوطنية لسورية في الآونة الأخيرة.

إن خطورة وحيوية مسألة الاستقلال الوطني والقومي، والأمن الوطني والقومي استطراداً، تدفعها إلى موقع الأولوية من ضمن أولويات أخرى في المشروع النهضوي، وتفرض الحاجة إلى صوغ استراتيجية عمل شاملة لتناولها في وجهيْها المترابطين: الاستقلال والأمن، لاتصال ذلك بتأمين القاعدة الارتكازية لتحقيق سائر عناصر المشروع النهضوي العربي وأهدافه الأخرى. وتتزايد الحاجة إلى هذه الاستراتيجية في ضوء الخبرة التاريخية التي أثبتت أنه كلما أخفق الوطن العربي في صناعة أمنه القومي وحماية استقلال إرادته وقراره، أخفق في صون أمنه وحماية أراضيه وسيادته من الأطماع الأجنبية بل من جيوش الغزاة الزاحفين عليها. وكان فشلُهُ في تسوية نزاعاته الداخلية – ومنها النزاعات الحدودية بين دوله – مدخلاً إلى تمكين القوى الأجنبية المعادية من التدخل في شؤونه والنيل من سيادته، كذلك أصبح احتلال هذه القوى المعادية لأراضيه، وبصفة خاصة الاحتلال الصهيوني لفلسطين والاحتلال الأمريكي للعراق، مدخلاً إلى إعادة تمزيق كياناته الوطنية من خلال دقّ الإسفين بين الجماعات المختلفة المكوّنة للجماعة الوطنية، وتوظيف تمايزاتُها الثقافية أو الإثنية في توليد انقسامات سياسية وإنتاج فتن طائفية وحروب أهلية ترهن الوطن برمته لسياسات الدول الاستعمارية وإدارتها.

1- استراتيجية الاستقلال الوطني والقومي

يَقع ضمن هذه الاستراتيجية تحقيق أهداف خمسة: تحرير الأرض من الاحتلال، مواجهة المشروع الصهيوني، تصفية القواعد العسكرية الأجنبية، مقاومة الهيمنة الأجنبية، بناء القدرة الاستراتيجية الذاتية.

أ- تحرير الأرض العربية : لا يستقيمُ استقلالٌ وطنيٌّ أو قوميٌّ ولا يكتمُل إلا ببسط السيادة على كامل الأرض العربية وتحريرها من أيِّ احتلالٍ أجنبي. ومن أجل هذا الهدف، يتعين التوسُّل بكافة الوسائل المتاحة بما في ذلك الوسائل العسكرية (النظامية والشعبية). وحيث تكون هذه الوسائل مشروعة ومطلوبة في مواجهة الاحتلال الأجنبي، يُسْتَحْسَن التفكير في نهجٍ سياسيٍّ تفاوضي حين تكون القوة المحتلة منتمية إلى دائرتنا الحضارية كما هي الحال مع إيران التي تحتل أراضٍ عربية.

ب- تصفية القواعد العسكرية الأجنبية : إن وجود أية قاعدة عسكرية على أية بقعةٍ من الأرض العربية مظهرٌ خطير من مظاهر فقدان الأمن والاستقلال والسيادة. وقد ناضلت الحركة القومية العربية، في سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، من أجل تصفية القواعد الأجنبية وإلغاء التسهيلات العسكرية الممنوحة لقوىً أو لأحلافٍ خارجية. ولقد أتتْ هذه القواعد تُطِل برأسها من جديد على منطقتنا بعد التحولات التي طرأت في النظامين العالمي والإقليمي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي والحرب الأطلسية على العراق في مطالع التسعينيات من القرن الماضي. واليوم، تعُج أجزاءٌ كثيرة من الوطن العربي بقواعدَ وتسهيلات عسكرية أصبحت تتجاوز مجرَّد فرض القيد على القرار والإرادة والاستقلال إلى تهديد أمن الوطن العربي وسلامته.

إن تصفية هذه القواعد، وإلغاء هذه الامتيازات والتسهيلات العسكرية الممنوحة للقوات الأجنبية، تقع في مقدمة الأهداف التي على حركة النضال العربي، المسترشدة بالرؤية النهضوية الشاملة، العمل من أجل تحقيقها صوناً لأمن الوطن وسلامة أبنائه، وحمايةً لإرادته واستقلالية قراره. وإن نجاح قوى المشروع النهضوي العربي في تصفية هذه القواعد سيرتبط – من ضمن ما سيرتبط به – بمدى نجاحها في استيلاد آليات فعّالة لتسوية المنازعات العربية – العربية بالوسائل السلمية من جهة، وإيجاد نظامٍ فعّال للأمنِ الجماعيِّ القوميّ يَدْرَأُ التهديدات الخارجية ويدفع الأخطار المحدقة بالوطن العربي.

ج- مواجهة المشروع الصهيوني : بعد سلسلة من الهزائم العسكرية التي دشنتها حرب العام 1948، وسلسلة من الهزائم السياسية التي دشنتها اتفاقيتا كامب ديفيد (1978)، والتصحيح النسبي للخلل الاستراتيجي في الصراع العربي–الصهيوني الذي نهضت به حرب تشرين الأول/أكتوبر (1973) وإسقاط "اتفاق 17 آيار/مايو" في لبنان (1983)، وتحرير المقاومة للجنوب اللبناني (أيار/مايو2000) وانتصارها التاريخي على العدو الإسرائيلي في 2006، وانتفاضتا 1987 و2000 في فلسطين، وبعد سقوط أوهام التسوية التي أطلقتها "كامب ديفيد" الأولى (1978) – و"اتفاق أوسلو" (1993) و"وادي عربة" (1994) واتفاقات التطبيع الاقتصادي مع العدوّ الصهيوني – وأَنْهَتْهَا اللاءات الفلسطينية في "كامب ديفيد" الثانية (تموز/يوليو2000)، بات يَتَعَيَّن على الأمة العربية ونخبها وقواها الحية أن تستعيد إدراكَها لخطورة المشروع الصهيوني على مستقبل الوطن العربي ومصيره – وضمنه مستقبل فلسطين ومصيرها – وأن تُطْلِقَ برنامجاً قومياً للمواجهة طويلة الأمد مرتكزاً إلى العناصر والأسس التالية:

أولاً: تعزيز وحدة الشعب الفلسطيني وتمسكه بأرضه وحقوقه كاملة، وتقديم الدعم الماديّ والسياسيّ له عبر إحداث صندوق خاص لهذا الغرض يَفِي بسائر احتياجاته الحياتية والمدنية ويرفع عنه ضائقة الحاجة والفقر والتهميش، وتمتيع اللاجئين من أبنائه في البلدان العربية بحقوقهم المدنية والسياسية كافة مع التمسك برفض مبدأ التوطين باعتباره آلية لتصفية حق العودة.

ثانياً: التأكيد على إفلاس نهج التسوية مع إسرائيل خاصة في إطار تبني النظام العربي الرسمي شعار السلام "كخيار استراتيجي وحيد" وإسقاطه مبدأ أن ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.

ثالثاً: تقديم الدعم والإسناد للمقاومة وللمؤسسات الوطنية في فلسطين، ورعاية حوار دائم بينها من أجل تعزيز الوحدة الوطنية ووحدة قوى المقاومة وتطوير منظمة التحرير بما يواكب التغير في الخريطة السياسية الفلسطينية.

رابعاً: التمسك العربي بالثوابت القومية المتمثلة في عدم التفريط بأي حق من حقوق الأمة العربية في فلسطين، وفي عدم الاعتراف بشرعية الكيان الصهيوني، أو التنازل له، أو عقد اتفاقات معه؛ والتمسك بمبدإ مقاطعته اقتصادياً ومقاطعة المؤسسات المتعاملة معه.

خامساً: الضغط من أجل تفعيل معاهدة الدفاع العربي المشترك، وتبنِّي استراتيجية دفاعية لمواجهة خطر المشروع الصهيوني تُسَخَّر لها – وفيها – كافة الموارد العسكرية والمالية والسياسية المطلوبة والمناسبة.

سادساً: إقامة السياسة الخارجية العربية مع القوى الدولية والإقليمية على مقتضى موقفها من الصراع العربي – الصهيوني ومن الحقوق الوطنية الفلسطينية والحقوق القومية العربية، واستعمال العرب لأوراق الضغط التي في حوزتهم، وبصفة خاصة النفط، والأرصدة المالية لدفع القوى الحليفة للكيان الصهيوني إلى مراجعة مواقف الانحياز لديها.

د- مقاومة الهيمنة الأجنبية بأشكالها كافة : ولقد زادت وطأة هذه الهيمنة بعد زوال الحرب الباردة وانهيار التوازن الدولي وانفراد القطب الواحد الأمريكي بإدارة شؤون العالم، ثم بانهمار وقائع العولمة وما في جوفها من تحوّلات باعدتِ الفجوة بين الأقوياء والمستضعفين في العالم. وإذا كان دفْع تحديات الهيمنة والعولمة يحتاج إلى ترتيب الداخل العربي من خلال إجراء الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المطلوبة، قصد التكيف مع عالمٍ أصبح ينهض فيه العلم والتقانة والمعلومات بدورٍ حاسم في تشكيل معايير القوة ومحدّداتها ومؤشراتها، وقصد كفِّ الأشكال المختلفة من الاستباحة التي يتعرض لها الوطن العربي للاستيلاء على موارده وثرواته أو لمصادرة حرية قراره وفرض شروطٍ أو صفقات غير متكافئة عليه...، فإن نهوضه بأمر مواجهة تلك التحديات قد يتجاوز قدرته وإمكانياته الذاتية وحده إن لم ينخرط في علاقاتٍ من التعاون والتنسيق مع كافة الأمم والدول المتضررة من فعل الهيمنة الأمريكية، والمُنَاهِضَة للعولمة المُجْحفة أو المطالِبة بعولمةٍ أكثر إنسانية، والداعية إلى قيام نظامٍ عالمي متعدد ومتوازن القوى والمصالح.

هـ- بناء القدرة الاستراتيجية الذاتية : إن الوطن العربي لا يملك حماية استقلاله وأمنه ومكتسباته دون حيازة قدرة استراتيجية ذاتية: دفاعية وتنموية وعلمية وتقانية، يتحصن بها الاستقلال والأمن. إنه في حاجة إلى انتهاج استراتيجية تستهدف الاستخدام الأمثل للموارد والقدرات المتاحة بشكل منهجي ومدروس وتجنيدها في سياسات تنموية قادرة على توفير أجوبة للحاجات الاقتصادية والاجتماعية للوطن والمواطنين. وهو في حاجة إلى تنميةٍ علمية يتغذى منها المجال المعرفي وتتغذى منها التنمية الاقتصادية. وهو في حاجة إلى إعادة توطين التقانة وصولاً إلى إنتاجها. ثم إنه في حاجة إلى تطوير منظومته الدفاعية بتطوير البحث العلمي في المجال الدفاعي وبناء صناعة عسكرية عربية مشتركة متقدمة وعصرية لتحرير القرار الدفاعي العربي من شروط وإملاءات القوى المتحكمة في سوق السلاح. وليس في وسع أية دولةٍ عربية بمفردها أن تنهض بذلك لأن مواردها المحدودة لا تسمح به. وعليه، لا مناص من إطلاق استراتيجية قومية عربية للتنمية تعتمد التكامل والاندماج من أجل تعظيم القوة وبلوغ هدف حيازة القدرة الاستراتيجية الذاتية.

ولكي تضمن استراتيجية حماية الاستقلال الوطني والأمن القومي العربي النجاح في مواجهة التحديات والضغوط الخارجية وبصفة خاصة الصهيونية والأمريكية، لا مَحيدَ لها عن أن تكون جزءاً من استراتيجية ممانَعَةٍ كونية بين القوى المتضررة من الهيمنة الأمريكية على مصير العالم، والرافضة لتلك الهيمنة، في أفق تصحيح حال الخلل القائمة في التوازن الدولي، وإصلاح مؤسسات الأمم المتحدة على مقتضى العدالة والديمقراطية والمشاركة المتوازنة في صناعة القرار، وبما يضمن مصالح الإنسانية جمعاء، وخاصة شعوب "العالم الثالث"، من أجل بناء نظام عالمي جديدٍ حقّاً للأمن والسِّلم والتعاون والفرص المتكافئة. ولا شك أن القوى التي تجمعنا بها قواسم حضارية مشتركة تأتي في مقدمة القوى الحليفة للعرب في مسعاهم من أجل بناء هذه الاستراتيجية.

2- استراتيجية الأمن الوطني والقومي

إن نقطة الانطلاق في تصحيح وضعية الاستباحة للأمن العربي بشقيه الوطني والقومي تكمن في صياغة مفهوم عربي مشترك يستند إلى المصلحة القومية، ويضع المصالح القطرية في اعتباره مع التأكيد على أن هذه المصالح لا يجب أن تشكل أدنى تهديد للأمن العربي ككل، ويتطلب هذا إجراء مراجعة موضوعية لكل المحطات البارزة في التاريخ العربي المعاصر منذ انطلاق فكرة مشاريع النهضة والوحدة العربية لاستخلاص الدروس من الأخطاء التي ارتكبت، وتحديد الفرص الضائعة التي ألحقت ضرراً فادحاً بالأمن القومي والعربي. وتنطوي استراتيجية الأمن الوطني القومي على بعدين أحدهما عسكري والثاني غير عسكري.

أ- استراتيجية الرّدع : وتقوم على مبدإ تنمية المقومات والعناصر اللازمة لردع العدو عن القيام بأي عمل عسكري ضدّ أية بقعة من بقاع الوطن العربي. وهذا يتطلب بناء منظومة دفاعية من قوات بحرية وجوية وبرية عصرية مجهزة بأحدث المعدات ومدرَّبة على أحدث فنون القتال وبأعداد كبيرة، ومن نظام معلومات ورصد واستخبار عسكريّ متطور. ومن دون قيام صناعة عسكرية عربية متقدمة تلبي احتياجات الجيوش، سيظل استيراد السلاح قيداً على استراتيجية الردع، كما إنه من دون حيازة قوة ردع استراتيجية – مثل السلاح النووي – لن يكون في وسع الوطن العربي ردّ الأخطار التي تُحدق بأمنه واستقلاله. وهذا ما أدركتْه في السابق دول مثل الصين والهند وباكستان وكوريا الشمالية، فكان حافزاً لها على الانصراف إلى إقامة صناعة عسكرية تلبي احتياجاتها، وإلى بناء منظومة ردع نووي تقيها الأخطار الخارجية.

ب- مواجهة التهديدات غير العسكرية : ومن هذه التهديدات خطر المشاريع السياسية المطروحة على النظام العربي سواء لتفتيته وإلحاقه بكتل إقليمية وعالمية تضيع فيها هويته، أو لتسوية صراعاته الإقليمية وعلى رأسها الصراع العربي-الصهيوني على النحو الذي يصفي الحقوق الفلسطينية والعربية، ولن تكون مواجهة هذه المشاريع ممكنة بغير بلورة رؤية عربية مشتركة واعتماد النهج التفاوضي الجماعي بشأنها، والقضاء على الأوضاع التي تيسر الاختراق الأجنبي للأقطار العربية واستقواء قوى سياسية داخل هذه الأقطار بذلك الاختراق.

من هذه التهديدات أيضاً المخاطر التي باتت تحيط باللغة العربية من أكثر من مصدر سواء نتيجة تفشي مؤسسات التعليم الأجنبي في الوطن العربي أو النزوع إلى تعزيز اللهجات المحلية على حساب اللغة القومية، أو الإفراط في الاعتماد على العمالة الأجنبية وما يستتبعه ذلك من دخول مفردات لغات أجنبية في الحياة اليومية العربية بما في ذلك تربية النشء في بعض الأقطار العربية، ولن تكون مواجهة هذه التهديدات ممكنة دون العمل على تحقيق السيادة الفعلية للغة القومية في الإدارة والتعليم والثقافة والعلوم بما في ذلك العمل على تعريب التعليم في الكليات العلمية العربية.

ومن هذه التهديدات خطر فقدان الأمن المائي والغذائي والأمن العلمي والتقني، الأمر الذي يهدّد بفقدان الاستقلال والإرادة والارتهان الدائم للأجنبي، ناهيك بالسقوط في دوامة من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية لعدم القدرة على توفير الغذاء والماء ومستلزمات الحياة.

من ناحية أخرى لا شك أن ظاهرة العمالة الأجنبية في الوطن العربي باتت تمثل خطراً داهماً على الأمن القومي العربي والاستقرار الداخلي في وحداته ناهيك عن أنها تضرب أصلاً فكرة التكامل القومي في جوهرها، والأمر المؤكد أن استفحال هذه الظاهرة يهدد بمزيد من استتباع الأقطار العربية خاصة وأن قطاعات واسعة من هذه العمالة تنتمي إلى قوى إقليمية ذات شأن، ويفاقم من هذا التهديد الأوضاع المتردية للفئات الدنيا من هذه العمالة. ومع التأكيد على ضرورة حصول هذه الفئات على حقوقها الاقتصادية والاجتماعية فإن الأمر من منظور الأمن القومي العربي يتطلب إعادة نظر شاملة في سياسات العمالة في الوطن العربي يجب أن تفضي إلى استراتيجية قومية تعتمد على العمالة العربية بصفة أساسية في تلبية الاحتياجات للعمالة في الأقطار العربية.

كما يتعرض الوطن العربي إلى عمليات تدمير منهجية للبيئة حيث تحول العديد من مناطقه إلى مستودعات للمواد السامة المشعة والملوثة بتواطؤ داخلي في أغلب الأحيان. ولابد من موقف عربي جماعي رسمي يواجه هذه الظاهرة وتداعياتها الخطيرة على الأمن البيئي العربي، ويتضافر مع قوى المجتمع المدني الفاعلة من أجل بيئة عربية آمنة .

انتهى

************************

حزب الإتحاد على أبواب مؤتمره العاشر يطرح وثيقة فكرية للمؤتمر يرجى الإطلاع والمشاركة ولكم جزيل الشكر