الثلاثاء، 10 نوفمبر 2009

هل قبل الاستقالة من قُدّمت إليه؟



زكريا محمد

ليس صحيحا أن خطاب الرئيس عباس قد وجه إلى الشعب الفلسطيني ومؤسساته أساسا.

لا، لقد وجه الخطاب أولا وثانيا وثالثا إلى الولايات المتحدة، ثم رابعا، وبشكل ما، إلى إسرائيل، وبعد ذلك إلى من تشاؤون.

وهنا تكمن المشكلة، حقا.

فبدل أن يقدم الرئيس تحليله للوضع الذي نحن فيه، ثم يقدم تصوراته، ويفتح باب النقاش في صفوف شعبه من أجل الوصول إلى استراتيجية جديدة، تقدم بالتنحي بين يدي أوباما، آملا منه أن ينقذ الوضع!

وكان رد أوباما، عبر السيدة كلينتون، قاسيا جدا.

فبعد لحظات من انتهاء الخطاب قالت للرئيس ما معناه: افعل ما تريد، تنح، فلن تحصل على أي شيء بهذه الطريقة!

يعني: أمريكا قبلت التنحي ، في ما يبدو .

من قُدم التنحي إليه، قبله.

أمريكا تعرف، بالطبع، ان الخطاب خطاب يأس، وانه صرخة استغاثة، لكن إدارتها المشغولة، والتي أنهكت سريعا، لا تملك أن تقدم شيئا لنجدة اليائس. لذا فرد فعلها كان في الواقع استغاثة موجهة نحو إسرائيل. فالرئيس أوباما في رسالته إلى الإسرائليين بمناسبة ذكرى اغتيال رابين، قال لهم: اليأس الفلسطيني لن يحقق الأمن لإسرائيل. وهكذا فالرئيس يستغيث بأمريكا، التي تستغيث بإسرائيل. أما رد إسرائيل فجاء على لسان بيزيز: لا تستسلم يا عباس، لا تستسلم!

بناء على كل هذا، لن تنفع رسائل المبايعة، ولا مظاهرات التأييد في الشوارع. فخطاب التنحي والابتعاد قدم أساسا إلى أمريكا وليس إلى الناس الذين يتظاهرون في الشوارع. التنحي قدم إلى أمريكا أساسا، وليس للفلسطينيين. يعني أن عودة الرئيس عن تنحيه يفترض أنها ليست مرهونة بمواقفهم.

والرئيس الآن في مشكلة.

فهو إن عاد عن تنحيه فسيعود أضعف بكثير من السابق. وهو إن لم يعد، فسيكون قد فشل في أن يقدم لنا انتقالا سلسا ومنتظما للزعامة.

وهناك انطباع آخذ في التبلور، يقول ان الرئيس قد خانه المنطق. فقد كان عليه أن يتوجه إلى شعبه يدعوه إلى البحث عن خيارات أخرى، بعد ان أغلق الطريق الذي قادنا فيه، بدل أن يتنحى بين يدي واشنطن. ولأن المنطق خانه، فقد تضاعفت مشكلته ومشكلتنا. وحل المشكلة لن يتم بإدخالنا في مظاهرات البيعة، بل في فتح باب النقاش الوطني حول خياراتنا المتاحة.

قرار الرئيس يعكس، في اعتقادنا، حالة إنكار. فهو غير قادر على قبول فكرة أن الطريق الذي قادنا فيه مغلق تماما، رغم أنه كان واضحا أن هذا الطريق مغلق، منذ لحظة قدومه. كان واضحا انه مغلق على الأقل منذ عام 2000، اي بعد مفاوضات كامب ديفيد. ولمن لم يكن مقتنعا فقد صار هذا واضحا عام 2002، اي عام اجتياح مدن الضفة، وحصار عرفات.

لكن الرئيس لم يكن مقتنعا. أراد أن يجرب حظه. لم يرد أن يأخذ تجربة عرفات بعين الاعتبار. رماها وراء ظهره، وقرر أن يجرب المجرب. بل أراد أن يثبت ان المشكلة كانت عند عرفات، لا عند أمريكا وإسرائيل. فالنسبة له كانت الدولة بين اليدين لكن عرفات ضيعها بأفعاله المنفلشة وبعنفه وإرهابه ضيعها (!). أما هو فسيأتي بها على طبق حسن السيرة والسلوك ونبذ العنف. وها قد جرب. أمضى خمس سنوات وهو يجرب، فوصل إلى ما وصل إليه عرفات؛ أي ان الطريق مغلق.

لكنه غير قادر على أن يقر بذلك، لذا تقدم بخطاب التنحي لأمريكا، قائلا لها ما معناه: سأغرق نفسي، إذا لم تعطوني إشارة ما على أن الطريق مفتوح.

لكنهم لم يعطوه تلك الإشارة.

لذا فها هو يغرق، ونغرق معه للأسف.

هو غير قادر على أن يدرك ان خياره قد انتهى، وأن عليه ان يصارح شعبه بذلك، وان يبادر إلى فتح باب النقاش حول الخيارات المتاحة. فهو يعيش حالة إنكار تام.

خطاب التنحي دليل آخر على ان الرئيس يعيش حالة إنكار تام.

طبعا، ما زال إصلاح الأمور ممكنا، لكن شرط أن يقتنع الرئيس بأن الطريق الذي قادنا فيه لسنوات مغلق، مسدود، مسكر.

أما إذا أصر على التنحي، فنرجوه أن يجعل الأمر من حلقة واحدة.

لسنا في وضع يسمح لنا بمشاهدة تنحِ على حلقات متعددة، كما فهمنا من خطابه!

الوضع لا يحتمل المسلسلات الطويلة.