الأحد، 15 نوفمبر 2009

عودة ثنائية شرق/غرب في انتصار التاريخ على حكاياه

عودة ثنائية شرق/غرب في انتصار التاريخ على حكاياه


مطاع صفدي

يقول التاريخ ان الدول تقوى بشعوبها أولاً ثم بحكامها. أما التاريخ العربي المعاصر فيقول لنا ان الدول تقوى بحكامها بقدر ما تضعف بشعوبها، ذلك أن حكام العرب هم العاملون الأوائل على إحباط شعوبهم. فلا غرابة إن اجتاحت النخب العربية مشاعر الرفض لأنظمتهم وأصحاب هذه الأنظمة في آن معاً. لكن عندما يدقق الباحث في أسرار هذه الإشكالية يكتشف بسرعة أن مسؤولية النخب عن كارثة الإحباط المعمم، قد لا تقل كثيراً عن مسؤولية الدولة وحراسها. فقد يدخل بعضهم في عداد خانة الحراس للدولة القائمة بوصفها الدولة الفاشلة على أنه ينبغي التمييز في نوعيات هذا الفشل. فهو ليس محدداً حسب التصنيف التقليدي، سياسياً كان أو اقتصادياً، عسكرياً، ثقافياً.. الخ. إنه الفشل البنيوي الذي يسبق كل هذه التصنيفات، وقد يكون سبباً استباقياً لها، مغذياً، معطلاً لفعالياتها الإيجابية المنتظرة.

الدولة العربية القائمة انشأت مؤسسات لكل هذه الفعاليات، أعطتها أسماءها المتعارف عليها، ملأت مكاتبها بأصحاب الشهادات أو أشباههم. ليس ثمة دولة / مشيخة صحراوية إلا وهي متوجة بعناوين وزارات العصر. تلك التي تستوطن عماراتها الحديثة الشاهقة. فالتنمية العمرانية تنحل هنا إلى التنمية الحجرية أو الاسمنتية. وأما رديفتها التنمية الإنسانية (المستدامة) حسب توصيفها البلدي فقد أمسى تداولها اللفظوي في الندوات والخطابات، بديلاً عن أية متغيرات تربوية أو حقوقية للإنسان العربي. وما يسمى بالمجتمع المدني أصبح مجرد إيديولوجيا حاجبة للكتل الأهلية السابقة على تكوين أي مجتمع حقيقي بمعناه العلمي.

قد يكون مصطلح التخلف شاملاً كل هذه الأعراض الإحباطية. لكنه يظل مجرد مصطلح تقني وتجريدي. فلا بد من تفريد مكوناته الواقعية، بحيث أن بروز أية ظاهرة سلبية على سطح الحياة اليومية سوف تغيّر من مفهوم التخلف، وتضطر المراقب إلى إعادة تعريفه على ضوء إضافتها أو تحريفها لسيرورته المألوفة بين الأفهام والأقلام. فإن تداول مصطلح التخلف يخرجه عن صيغته الأولى باعتباره توصيفاً للأوضاع العامة، وينقله إلى صيغة حكم معياري، مشبع كذلك بما يشبه الادانة الأخلاقية. كأنما المتخلفون مدانون مقدماً بجريرة لا يعرفونها، ولم يريدوها لذواتهم. ومع ذلك فالآخرون، المتقدمون افتراضاً، يحملونهم مسؤوليتها. يطالبونهم دائماً برفض واقعهم، بإطلاق قوى التغيير من تحت جلودهم السميكة. هنا تبرز أدوار النخب الصاعدة ما فوق الجسد المتعضي لمجتمعاتهم. تقترح حلول التغيير؛ ترفع الشعارات المتدرجة من مستوى المطالبة بالإصلاح إلى مستويات أشد غضباً وحزماً، من أشكال التمرد العفوي والفوضى إلى حدود الثورة المنظمة. وأما الموضوع الذي يقع عليه كل هذا الاحتجاج أو الغضب الجماعي فهو السلطة الحاكمة. ما يعني أن العامل الأول في كسر حلقة التخلف لا بد أن يكون سياسياً. والتاريخ شاهد على أن جسر العبور الوحيد بين التخلف والتقدم لا ينبني تلقائياً أو عفوياً. لا بد من تدخّل ثقافة العنف لإحداث القطيعة الضرورية بين ما هو قائم، وما لم يقم بعد.

تجربة النهضة العربية المعاصرة حافلة بشهادات الواقع الممزق عن هذه اللوحة التصنيفة لجدلية التخلف والتقدم. وقد يحكم البعض أن قصة هذه النهضة أوشكت على نهايتها. لم يتبق أمامها سوى الاعتراف بإحدى النتيجتين الآتيتين: إما أن هذه النهضة لم تكن في أساسها لا مالكةً لبذور إمكانياتها المطلوبة، ولا واعيةً لمشروعها فكرياً أو استراتيجياً؛ وإما أنها قد ابتُليت بالموانع الأقوى منها دائماً طيلة مسيرتها المتخبطة، لدرجة أن البلاء قد اخترقها حتى الصميم من بنيتها التاريخية والإنسانوية، إلى حد أنها فقدت هويتها حتى في عين ذاتها، فلم تعد ترى عن نفسها إلا شتات صورٍ لها، مبعثرة أمامها في مرايا أحلامها المهشَّمة.

في فلسفة التاريخ يجري بعض أساتذتها على تأويل ما يعنيه حطام النهضة. فليس هذا الحطام ترميزاً لموت النهضة نهائياً، فقد يظل حطاماً حياً بشكل ما، باعثاً على إنتاج نسخ أخرى عن نهضته الأصلية المتوارية وراء هزائم مشروعها السياسي الخائب. إنها نُسَخٌ لنهضة أخرى، قد توصف بالزائفة المزورة، بالطفيلية فيما لا يمت لها بصلة بنيوية أو فكرية مع حقائق النهضة الأصلية وأسرار شخصيتها المفهومية كما هي بعين روّادها ومريديها. لن تكون إذن سوى هذا الشيء المستكره، الملقب بشبه النهضة، بالظاهرة النهضوية الفاسدة أو الزائفة.
لكن فلسفة التاريخ تعلمنا كذلك أن حطام النهضة الأصلية، رغم الفشل والانهزام لخيارات تاريخانية خاطئة أو مغدورة، فإنه يظل حطاماً حياً بمعنى ما. إنه يخترع النهضويات البديلة الزائفة. هذا صحيح.

لكن الأصح أيضاً هو أن مسارح التاريخ تثبت أن عربدة الظواهر التاريخانية الزائفة، موكول إليها، هي عينها، أمْرُ افتضاح خَوائها من طاقة الاستمرار الزمانية، ومن قدرات الاقتناع والإقناع بألاعيبها السياسوية العابرة، لدى ممثليها وأتباعها معاً.

نقول هذا ونحن نتذكر هذه الأفكار، كيما نطل منها على جدواها فيما يفعله وينتجه تحقيب تاريخاني عربي إسمياً، دُعي اعتباطاً بعصر السلام مع (الشريك الاسرائيلي) خلال عقدين تقريباً من اللعب بأحجار الدومينو التفاوضي، المترافق مع صنوه من إنجاز سلام حكومي معلن (مصر والأردن)، وآخر مبطّن ومُغلّف بأكاذيب الإعلام الرسمي، دبلوماسي اقتصادي، بل يكاد يصير تحالفاً أمنياً واستراتيجياً، بين معظم رؤوس النظام العربي الحاكم، وثوابت الغزو الأمريكي الصهيوني، وتطلعاته لابتلاع حاضر ومستقبل قارة العرب والاسلام بحضارتها وثرواتها.

عقدان من نهاية القرن العشرين وافتتاح القرن الواحد والعشرين، شكلا مسرحاً زمانياً نموذجياً لأهم ثنائية فلسفية ما بين حقائق التاريخ، و(حكايا) التاريخانية. إنها متغيرات دولية بل كونية هائلة، وفي هوامشها تغلغلت متغيرات عربية وإسلامية عظمى هي أيضاً. ولعلها كان لها أبعد الأثر في شبكية المنعطفات الدولية من حولها، وفي أبعد أو أقرب دوائر إشعاعها. هذه الصيغة من التحليلات لن يُقِرَّ بها منظّرو الغرب بسهولة. هم يدركونها أعمق الإدراك. لكنهم لن يبوحوا بها، حتى في خلايا التفكير المغلقة على كبارهم؛ إلا أن مراقباً عربياً عادياً لا يمكنه إلا التصديق على المقارنة الذكية التي تتداولها منتديات بيروت، بين ثمانية عشر عاماً من إنجاز المقاومة اللبنانية، وموازيها من التفاوض الفلسطيني الاسرائيلي فالمنظور الاستراتيجي لا يتوقف عند حدود إنجازات هذه المقارنة. بالطبع لا يحتاج المرء إلى تعداد الفوارق الهائلة بين قطبها: المقاومة اللبنانية، المحررة والطاردة لاحتلال الاسرائيلي من خُمْسِ مساحة لبنان، ومن ثم الهازمة للغزو العسكري المرتد على الجنوب (تموز 2006). ومقابلها يُقرُّ أركان التسوية بحصيلة الفشل العقيم الذي يكاد ينجز تهويد فلسطين، إن لم يكن تهويداً استيطانياً كله، إلا أنه يصير إتنياً وسلطوياً شاملاً.

إذن، بعض مؤرخي الغرب المنصفين يرددون، بحسب لغات وتعابير خشبية خاصة بمزايا الأسلوب التعبيري الأوربي، أنه إذا كانت اقتصادات الصين وزميلاتها من دول الشرق الصاعدة قد وضعت حداً لأحادية الغرب الرأسمالية، فإن هزائم الإمبراطورية الأمريكية، سياسياً وعسكرياً، قد تتلامح واقعياً و ترميزياً من خلال إنجازات المقاومة العربية، مع انهيار آخر مشاريع الغرب، المسمى بالشرق الأوسط الجديد.

لعلَّ النهضة العربية الثانية المعاصرة تعاود انبعاثها، ما فوق حطام تجارب الأنظمة الحاكمة باسم شعاراتها. إنها النهضة العائدة إلى أحضان شعوبها بقدر ما تتساقط أقنعة النهضة/التنمية الأخرى الزائفة المهادنة للعدو الخارجي، والمتحالفة مجدداً مع مكونات التخلف، وتحت معجم اللغات الخشبية.

إنها نهضة التنمويات المستوردة برعاية البنك الدولي وتوأمه الصندوق الدولي، وتقارير (مفكري) الأمم المتحدة مُغلّفةً بشعارات ضخِّ الاستثمارات،التي تتم ترجمتها فقط إلى استثمار التخلف الأهلوي، ومحاولة عزل كل استثمار نهضوي أصيل لظاهرة المقاومة، وخاصة تعقيم انتصاراتها في مجالها الحيوي القومي الأوسع. في حين أن (التاريخ) بالخط العريض، هو وحده من راح يُحسن استثمار النتائج البنيوية العميقة على مستوى متغيرات توازن القوى الحضارية، في محاورها الدولية الأوسع، ما بين الشرق و الغرب.

جدلية النهضة التاريخية مع توأمها المضاد، النهضة الأخرى المزوّرة، الموصوفة حتى من قبل حراسها الأيديولوجيين، بالفاسدة المفسدة، والمتداولَة أيديولوجياً تحت مصطلح التاريخانية، هذه الجدلية لا تقتصر فعالياتها على قطاعات جيوسياسية محددة، ولعل أبرزها ولا شك، مسارح المحارق الأهلوية والأمريكية في العالمين العربي والإسلامي: لقد أمست هي الجدلية الكوكبية الفاعلة من خلال ثقافة النهايات التي ترددها أندية الفكر الغربي عينه، قبل أن يستوعبها مثقفو الشرق أنفسهم. فالأزمة المالية العالمية تفضح قصتها، بأسبابها المعلنة والغامضة، ونتائجها غير المعلومة بعد وتشكل التركيبَ الأعلى لمغامرات التاريخانية، كما اخترعها وعايش أساطيرَها المشروعُ الثقافي الغربي. إنها الأزمة المالية أو الاقتصادية، بل البنيوية الشاملة التي لم تكن لتنفجر أهوالها قبل حقائقها ودلالاتها، لو لم تكن قد نجمت مقدماتها الحدثية، ليس من التحول الاقتصادي الشرقي فقط، بل ربما ينبغي التدليل عليها كذلك، من خلال تلك الحكمة القديمة أن الشمس لن تسطع إلاّ من الشرق، وإن اختطفها ضباب الغرب وأغرقها في بحر ظلماته من ليل إلى آخرحتى ميعاد جديد.


'
مفكر عربي مقيم في باريس


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق