الأحد، 15 نوفمبر 2009

عن مثقف إنتحر احتجاجاً

بسـام الهلسـه

} طائرٌ غنّى قليلاً ..

فوق غصنٍ.. ثم طارْ

قلتُ: هذا طائر العمرِ

إلى الأفق إستدارْ

للمدى الأرحبِ، قد أسلم جِنحيه، ونهباً للمدى

سوف يغدو ..

وَيْ لَعُمرٍ هو كالثوب المُعار ! {

من ترجمة "تيسير سبول" لرباعيات "عمر الخيام"

* * *

* لا أذكر تماماً متى التقيته أول مرة.. ربما في بدايات العام 1973م.

كان ذلك في مكتب الشاعر "عز الدين المناصرة" في مبنى الإذاعة الاردنية، عندما دخل تيسير السبول، وقدمني له المناصرة كفتى شاعر واعد!

رمقني تيسير بنظرة ودودة، وتناول الدفتر الذي كنت أحمله وفيه محاولاتي الشعرية الأولى, وأخذ يقلب صفحاته ليدعوني من ثم إلى مكتبه طالباً أن يحتفظ بدفتري لبعض الوقت ليختار منه ما يقدمه في برنامجه الإذاعي "الأدب الجديد" على ما أذكر.

عندما زرته في المرة الثانية, أعاد لي الدفتر وقد وشّاه بتعليقات وملاحظات مكثفة على عدد من القصائد.. إن جاز لي تسميتها كذلك؟

وربما لا زال هذا الدفتر موجوداً لدي، إذ إحتفظت به أمي –بين ما احتفظت به من أشيائي القديمة- بعدما غادرت الأردن للدراسة الجامعية في خريف 1974م، لأعود إليها في أواخر التسعينيات من القرن الماضي.

* * *

فيما بعد التقيت تيسير (أبو عتبه) في لقائين خاطفين كتعليقاته. وقد بدا لي حيوياً، لماحاً، يفيض حماسة.. على تباين مع الصورة التي إرتسمت في ذهني عنه عند قراءتي لديوانه "أحزان صحراوية"، الغنائي الرومانسي الحزين، ولروايته "أنت منذ اليوم"، المتوترة الساخطة، التي كتبها غداة هزيمة حزيران 1967م المذهلة، والتي تركت فيَّ إنطباعاً قوياً إستحضرته في الحوار التلفزيوني الذي أجرته معي المخرجة "ربى عطية" قبل سنوات قليلة ضمن برنامجها "مئة كتاب في القرن العشرين".

* * *

بناءً على الصور والإنطباعات التي كوّنتها عنه، ذهلتُ حينما سمعت بنبأ إختياره الرحيل ضحى يومٍ عَمَّاني خريفي في الخامس عشر من تشرين ثاني- نوفمبر- 1973...

بدا لي انتحاره مُحيّراً, ولم استوعبه رغم ما قرأته وسمعته عنه مما كتبه وقاله أصدقاؤه وعارفوه المقربون.

لكنني إحتفظت بتفهم وتقدير له، عبرت عنه في مقالة كتبتها أواسط السبعينيات الماضية ونشرتها جريدة "الوطن" الكويتية، وكذلك في الندوة الاستعادية التي كُرِّست لذكراه السادسة عشرة (خريف 1989) وأقيمت في مقر "الإتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين" بدمشق، وتحدثت فيها إلى جانب الراحلين الصديقين: "غالب هلسا" و"فواز عيد".

في كلمتي في الندوة، التي وسمتها بـ"محنة الوجود المنتهب.. والذات المُضَيَّعة"، سعيتُ لتقديم مقاربة لما فهمت أنه "تيسير السبول".. أقول: (مقاربة) لاعتقادي بأن "الانتحار" يظل إختياراً شخصياً شديد الخصوصية، إستثنائياً وخارقاً للعادة، يصعب كثيراً إعطاء رأي قطعي بشأنه.. خصوصاً عندما يتعلق الأمر بشخصيةٍ "مركبة" متعددة الحضور مثل تيسير.

فهمتُ إنتحاره، الذي حدث مباشرة بعد وقف إطلاق النار في حرب "رمضان" (تشرين الأول- أكتوبر- 1973) العربية- الإسرائيلية، كفعلٍ إحتجاجي عنيف لمثقفٍ عربي مرهف، متوتر، شغله منذ بواكير وعيهِ الوجود والمصير العربي, وعاينه بحساسية عالية كوجود منتهب، مُهان، مُبدّد، يسحقه غزاة طامعون وطغاة قامعون...

مثقف إمتلأت روحه شوقاً لرؤية قيامة وخلاص أمته, وتطلع –مثلها- لدور كبير ينهض به.. وهو ما يمكن تتبّعه واستقراؤه في حياة تيسير وكتاباته الأدبية والفكرية.

ومع خيبة آماله وتبددها؛ تكثف الشعور بالفجيعة والإنكسار لدى "العربي الغريب"(اسم الشخصية المحورية في "انت منذ اليوم"), وإذ لم يكن لديه ايّما عزاء, وكانت الطريقة الاحتجاجية الدامية التي إقترحها الأديب الياباني "يوكيو ميشيما" ماثلة أمامه، فقد تناول تيسير المسدس, وضغط على الزناد مصوباً إلى الرأس، لينحني ويصمت إلى الأبد...

فيمــا لــم تــزل كتــابــاتــه -وإنشغـالاته خـاصـة- قـائمـة حيّـة علـى جـدول أعمـال المعنييـن..

وربمــا بــإلحــاح أكبــر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق