السبت، 17 أكتوبر 2009

فلسطين: سقوط السياسة!

ميشيل كيلو

لم تعد هناك جدوى من سياسة السلام الفلسطينية مع إسرائيل، والخوف كل الخوف أن لا يكون هناك أي جدوى للسياسة ذاتها بالنسبة إلى الفلسطينيين. فإسرائيل ترفض مبدأ الوصول إلى تسوية تاريخية معهم، وترفض مبدأ العمل في سبيلها، وترفض مبدأ التفكير فيها، بينما يعني السلام في نظرها استيلاءها التام على ما بقي من أرض فلسطينية غربي الأردن، وطرد العرب منه. ومن يتابع ما يفعله الصهاينة تحت ومن حول المسجد الأقصى المبارك، وفي القدس عامة، وعبر الاستيطان، والعسكرة الهوجاء، يجد أن سياساتهم لا تضع السلام في حساباتها، إذا كان لا يؤدي إلى تهويد أرض فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر، وتطهيرها من العرب.

قد يبدو هدف إسرائيل صعب التحقيق، وهو كذلك بلا شك. لكن ألم تكن إقامة دولة يهودية أمرا صعبا، بل مستحيل التحقيق؟. ألم يتحقق المستحيل الصهيوني، في حين فشل العرب، رغم طبيعية ومنطقية قيام دولة لهم في أرض إبائهم وأجدادهم؟. وهل وضع العرب اليوم أفضل من وضعهم بين الحربين العالميتين وما تلاهما؟. لو سألنا عربيا عام 1897 عن احتمال قيام دولة يهودية في فلسطين خلال خمسين عاما، بحسب نبوءة هرتزل، لقال: هذا محال. إن ما سيقوم في فلسطين هو الدولة العربية وحدها، ثم إن فلسطين خالية من اليهود (عام 1905 كان عددهم نيفا وخمسة عشر ألف شخص)، فمن سيقيم دولتهم المزعومة وأين سيقيمها؟. واليوم، ليس في فلسطين دولة غير دولة اليهود، التي التهمت نصف مساحة الدولة العربية وحالت بالقوة دون قيامها عام 1948، وها هي تمنع اليوم أيضا قيامها على ما تبقى من ارض غير يهودية، وهو دون 22% من مساحة البلاد الكلية.

بالأمس، حققت إسرائيل أهدافها بالقوة. وهي تفعل كل ما تريده أو تتطلع إليه اليوم أيضا بواسطة القوة، رغم عشرات قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي حول السلام. ومن يتابع أقوال وأفعال قادتها، فسيجدهم يعدون العرب بحروب وشيكة: من لبنان إلى غزة. ويهددون بشن حرب على إيران، ويتدخلون عسكريا أو مخابراتيا في أفغانستان والعراق وباكستان وأميركا اللاتينية وأفريقيا، فليس للسلام محل من اهتمامهم أو سياستهم، بينما يمدهم وضع الفلسطينيين والعرب بالفرصة اللازمة لتحقيق مآربهم، بعد أن بلغ حدا من الانحطاط أخذ يغري جميع جيرانهم بهم، بمن في ذلك الذين يشاركونهم الدين والتاريخ والحضارة و...، لكنهم يهمشونهم ويضعون أيديهم على قضاياهم، لمآرب متنوعة ليس بينها قطعا الدفاع عن مصالحهم.

سقطت السياسة الفلسطينية في جانبيها: الموالي والمعارض. في جانب الموالاة، صار جليا أن السلطة لم تحقق، بالتفاوض، أي قدر من مطالبها وأهدافها، وأنها فشلت تماما في زحزحة الإسرائيليين عن سياساتهم التوسعية والاستيطانية، وإقناعهم بضرورة قيام دولة فلسطينية، وواجهت مطالب لم تعرف كيف تلبيها وتفتقر إلى وسائل تلبيتها، بينما يصر الصهاينة على تحقيقها كشرط لاستئناف التفاوض، بينها الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل، بما سيترتب عليه من كوارث بالنسبة لعرب فلسطين عموما وعرب 1948 خصوصا، اذ تعني تلبيتها إغلاق طرق بلوغ الدولة المستقلة إغلاقا كاملا. أمام هذه المعضلة غير القابلة للحل، التي تعمقها سياسات نتنياهو وفريقه، ومواقف أميركا المؤيدة أكثر فأكثر لإسرائيل، تبدو السلطة الفلسطينية كمن فقد أوراقه جميعها، وطفق ينتظر الفرج من عدو محتل، يرفض أهدافه ولا يترك فرصة إلا واقتنصها للقضاء عليه سياسيا وأمنيا. بالمقابل، ترفض حماس السياسة، وخاصة التفاوضية منها، وتتحدث دون توقف عن المقاومة، دون أن تضع برنامجا أو تصورا يوحد طاقات فلسطين، أو ينهي انقسامها، الذي يبدو أنها تفضل التعايش معه على العمل لإنهائه، علما بأن من الصعب، إن لم يكن من المحال، خروج فلسطين رابحة منه، ومن المؤكد أنها ستخسر، بسببه، كل شيء، وأن خسارتها ستكون أفدح في أبعادها ونتائجها من أي خسارة سبق لها أن منيت بها. مقاومة نعم، لكن هل تكون المقاومة ممكنة وفاعلة في ظل انشطار وطني مميت واحتلال إسرائيلي يملك، بفضل الانقسام الفلسطيني، هامش مناورة وإيذاء واسعا جدا تجاه قوى فلسطين جميعها، وخاصة المقاومة منها، وبالأخص منها حماس؟. كيف تقاوم فلسطين إذا بقيت منشطرة إلى نصفين متناحرين مقتتلين، يفوق حقد كل نصف منهما على النصف الآخر حقده على إسرائيل واحتلالها؟.

إن سياسة المقاومة هي الوجه الآخر لسقوط السياسة الفلسطينية، وهي تسهم بدورها في فتح الباب لتهويد فلسطين وطرد العرب منها. أليس سقوطا نهائيا للسياسة أن تبلغ فلسطين وضعا يرجح كفة تناقضاتها الداخلية على كفة تناقضاتها العدائية مع المحتل، في معركة تحرر وطني تتطلب تجميع وتوحيد طاقات الجميع، إلى أي حزب أو منظمة انتموا، لاتخاذ موقف سياسي يعجز العدو عن اختراقه والإفادة منه، أو لتوجيه جميع البنادق ضده؟.

يتخطى سقوط السياسة أي تنظيم فلسطيني، ويعبر عن سقوط جميع التنظيمات، وسقوط فلسطين، التي يتلاعب العدو الإسرائيلي بأقدارها دون أن يتمكن شيء أو أحد من ردعه. فهل يعي طرفا المعادلة السياسية الفلسطينية هذه الحقيقة، ويباشران العمل فورا لإنقاذ وطنهما ونفسيهما من نهاية وخيمة لها مدخلان: سياسة التفاوض والتسوية من جهة، وسياسات المقاومة من جهة أخرى.

ليس بوسع أحد إنقاذ فلسطين غير الفلسطينيين. وليس بوسع هؤلاء الخروج من حالهم الراهن ببرنامج فتح أو حماس. إن عليهم إعادة تأسيس السياسة، بتلمس مخارج تنهي طور الانكفاء والانهيار الراهن، وتأخذهم إلى أوضاع توقف تهويد وطنهم وتثبت وجودهم فيه، فلا ركض وراء أوهام سلام مستحيل التحقيق، ولا مقاومة تقوض مواقفها قدرتها على الفعل، وتلحق الأذى بالذات الوطنية الفلسطينية أكثر بكثير مما تلحقه بالعدو.

فلسطين اليوم خارج السياسة. إنها في لحظة موت سياسي، يعززه موت حاضنتها القومية، حيث لا توجد سياسة غير التمسك بالسلطة والدفاع عنها ضد الشعب. ومن يكن بلا سياسة أو خارج السياسة، لا يستطع نيل حقوقه أو الدفاع عن مصالحه، ويكتف من الوجود بالانحدار نحو الهاوية.

ويبقى الأمل كبيرا في مواهب وقدرات الوطنية الفلسطينية: العلمانية والإسلامية، التي احتلت بمقاومتها مكانا تحت الشمس، وصار من الضروري جدا أن تعي مأزقها، وأن ترفض التعايش معه، كي لا تخسر نفسها، والقليل الذي بقي من وطنها!.

تسقط السياسة في لحظة مفعمة بأمل الدولة ووعدها. أي دول يمكن أن تقوم بلا سياسة، وأي سقوط للسياسة يمكن أن ينتج دولة؟.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق