السبت، 17 أكتوبر 2009

القدس والدروس الراهنة

عوني فرسخ

بعد انتصار صلاح الدين الأيوبي في حطين، حاول فتح القدس صلحا، لما لها من مكانة قدسية وحرصا على سلامتها. ولكن الافرنج داخل المدينة تمنعوا، ما اضطره لاقتحامها في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول 1187.

ويجمع المؤرخون على الإشادة بمواقفه يوم تحرير القدس. فقد سمح للبطريرك اللاتيني الأكبر بمغادرة المدينة بما يحمل من أموال البيع وذخائر المساجد التي كان الصليبيون قد غنموها، ولم يستجب لاعتراض بعض مساعديه بأن البطريرك يقوى بهذه الأموال على حرب المسلمين. كما استجاب لرجاء نبيلات الافرنج فاطلق سراح رجالهن من الأسر، واطلق سراح المعوزين من الشيوخ والعجائز من دون فدية. ولم تغلق كنيسة القيامة سوى ثلاثة أيام، وبعدها سمح للافرنج بزيارتها.

وبالمقابل كتب غوستاف لوبون - في كتاب “حضارة العرب” (ص287) - حول المجزرة التي اقترفها الفرنجة غداة اقتحامهم القدس قبل سبع وثمانين سنة يقول: “لم يكتف قومنا الصليبيون الاتقياء بصنوف العسف والتدمير والتنكيل التي اتبعوها، بل عقدوا مؤتمراً اجمعوا فيه على إبادة جميع سكان القدس من المسلمين واليهود وخوارج النصارى، الذين كان عددهم ستين ألفاً، فافنوا عن آخرهم في ثمانية أيام ولم يستبقوا منهم امرأة ولا شيخاً”. وكان في مقدمة ما اتخذوه بعد المجزرة تحويل المساجد إلى كنائس، وقد اطلقوا على مسجد قبة الصخرة اسم “هيكل الرب”، أما المسجد الاقصى فقد حولوا جزءا منه إلى كنيسة باسم “هيكل سليمان” واتخذوا بقيته مسكنا للفرسان.

ولما كانت القدس تواجه اليوم ما يبدو استنساخا للعدوان الفرنجي يغدو غاية في الأهمية التذكير، بالمسيرة الجهادية التي توجت بتحرير القدس، لما فيها من دروس. وبالعودة لبداية الغزو الفرنجي، المصطلح على تسميته “الحروب الصليبية”. يذهب معظم المؤرخين إلى أن أول العوامل المحركة للغزو إنما كان استنجاد امبراطور بيزنطة بأوروبا والبابوية في مواجهة الخطر السلجوقي الضاغط في الأناضول وبلاد الشام، بعد هزيمته في معركة ملاذكرد. فيما كان البابا أوربان الثاني محرك الحملة الفرنجية الأولى، وذلك بخطابه في كليرمونت داعيا لوقف النزاعات المسلحة بين أمراء الاقطاع الاوروبي، والتوجه إلى البلاد المقدسة وامتلاكها. مستهدفا تعزيز مركزه في صراعه على كرسي البابوية، حين كان منفياً في جنوبي فرنسا، كما أنه كان يخوض صراع قوة مع الامبراطور هنري الرابع. وتعود سرعة استجابة الفرنجة، لأنهم كانوا في جنوبي فرنسا تحت تأثير الضغط العربي الاسلامي في اسبانيا المجاورة. وهناك من يرى أن معركة الزلاقة التي انتصر فيها يوسف بن تاشفين والصاحب بن عباد على ألفونس السادس ملك قشتالة، بعد ملاذكرد بستة عشر عاما نبهت الاوروبيين إلى انهم باتوا يواجهون كماشة اسلامية تضغط من المشرق والمغرب. وذلك فضلا عن الظروف الاقتصادية القاسية في غرب أوروبا أواخر القرن الحادي عشر الميلادي. حيث اضطر الناس في فرنسا إلى أكل الحشائش والأعشاب.

وفي الوقت ذاته كان الفاطميون قد ضعفوا وانحسر سلطانهم حتى عسقلان في جنوب فلسطين. وبغياب فاعلية مصر، شاع في بلاد الشام التشرذم والصراعات السلطوية، ما أتاح للفرنجة اقتحام انطاكية سنة 1098م واجتياح البلاد في زحف عاصف ليحتلوا القدس في السنة التالية. وما بين انطاكية في أقصى شمال سوريا والرها في أقصى شمال العراق، وحتى القدس والرملة، لاقت كل مدينة وبلدة أبت التسليم التقتيل والتدمير والنهب. وأدت السياسة المعتمدة إلى هرب وتشتت من كتبت له النجاة من أهالي البلاد مسلمين ومسيحيين. وفي هذا يقول د. نقولا زيادة: “والحملة الصليبية الأولى، والفظائع التي ارتكبتها في طريقها وفي احتلالها القدس ليس مما يشرف. وقد ظهرت لنا رغبات الصليبيين من خلال تصرفهم السيئ مع مسيحيي فلسطين انفسهم، فقد استولوا على اديرتهم وطردوهم من الكنائس والبيوت، فتبعثر المسيحيون في نواحي فلسطين وشرق الاردن. “وسار البطريرك إلى القاهرة ليعيش في حماية الفاطميين”.

وحيث امتد الاحتلال الافرنجي الصليبي افتقد المسيحيون الاورثوذكس واليعاقبة، بغياب السلطة المسلمة، التزام الحكام بالحرية الدينية التي حض عليها الاسلام، كما خسر الارثوذكس الرعاية البيزنطية بسبب النزاع الذي نشب بين الفرنجة والبيزنطيين. ولقد اضطر الذين بقوا من الارثوذكس إلى تقديم الطاعة وضريبة العشر إلى رجال الكنيسة اللاتينية الأعلى مركزاً، والذين كانوا من جنس دخيل. فيما منع الاقباط من الحج إلى بيت المقدس لاعتبارهم هراطقة، وحولت كنائسهم إلى كنائس لاتينية. ولقد توالت الصراعات الظاهرة والمستترة بين الامبراطورية البيزنطية والفرنجة منذ بداية الغزو. لدرجة أن الامبراطور البيزنطي وصل به الأمر الاتصال سنة 1110م بالخليفة العباسي في بغداد يحرضه على قتال الفرنجة مطالبا “الإيقاع بهم، والإجماع على طردهم، وترك التراخي في أمرهم، واستعمال الجد والاجتهاد في الفتك بهم قبل أعضال خطبهم واستفحال أمرهم”.

وفي غالبية المدن المحتلة حولت المساجد إلى كنائس، وازيلت منها المحاريب، وعلقت فوقها الصلبان محل الأهلة. وقد فرض على المسلمين الباقين في الدويلات اللاتينية دفع الجزية، ونسبة من انتاجهم، وضريبة على أشجار الفاكهة.

وحيث لم يواجه التحدي الافرنجي بداية بأي استجابة، وغلب على أصحاب السلطان الاهتمام بشؤونهم الخاصة، سادت مشاعر الاستياء ضد القيادات الاسلامية. ولم تلبث أن ارتفعت الدعوة إلى الجهاد من على منابر المساجد، ولقيت الدعوة تأييدا شعبيا واستجابة نخبوية، والفت الكتب والرسائل في فضل الجهاد والمجاهدين، وعن مكانة القدس وأهميتها. وفي ظل هذه الحركة تكون رأي عام قوي وضاغط على القيادات الاسلامية في معظم نواحي الوطن العربي، بحيث قدر لهذا البعث الثقافي التأثير في مجرى الأحداث.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق