الخميس، 8 أكتوبر 2009

على بســــــــاط الثــــلاثاء


حبيب عيسى

الجمهورية العربية المتحدة …(1)

- 50 عاماً على طريق الأماني، والأحلام …!

- 50 عاماً على طريق الخيبات، والانكسارات …!

( 1 )

في حياة كل واحد منا ، لحظات تقيم معه ، لا تغادر ، ولا تمر ، وإنما ترافقه عبر الزمن ، ترن في ذاكرته ، تبث الأحزان أو تنعش الروح في أحلك الظروف وأقساها …

لحظة هذا شأنها ، مررت بها لكنها أبت أن تمر بي .. لقد أقامت ، حتى بت لا أدري إن كان هذا الجسد مسكنا لروحي , أم مسكنا لها .

أم أن روحي وهي تعاهدتا على المساكنة في هذا الجسد الذي بدأت خلاياه بالموات الواحدة تلو الأخرى ….بحيث تقفزان منه في لحظة المغادرة حين تدق ساعتها ….تلك اللحظة التي تتجسد الآن أمام ناظري بأبعادها الثلاثة …مضى عليها خمسون عاما بالتمام والكمال ….جاءت ذات ضحى في 22 شباط “فبراير ” 1958 أطفال (مسترجلون) “كنا ” لم يخامرنا أي شك بأن الأحداث التي كانت تحدث هي من صنعنا, نحن أصحاب القرار فيها , نحن الذين خططنا، ونفذنا ، نحن الذين منذ سنتين انخرطنا في المقاومة الشعبية ننظف الأسلحة من شحومها….(مازلت أذكر بفخر البارودة البولونية أم الطلقات الخمس )، ونرصف أكياس الرمل ونطلي النوافذ ,وفوانيس العربات بالأزرق, ونتدرب على الدفاع المدني، ونحفر الخنادق حول المدن ….ثم ها نحن نضع حجر الأساس لدولة الوحدة العربية ,بإعلان الجمهورية العربية المتحدة بين سورية ومصر ….وها نحن في ضحى ذلك اليوم 22 شباط 1958 ننتظر ومنذ الفجر فوق أحد الأسطحة المشرفة على ميدان السرايا الحكومي في مدينة حمص بالإقليم الشمالي لنستقبل ذلك الرجل الذي بات رمزاً لرفض التبعية ,ورمزاً للوحدة العربية , انه واحد منا يتحدث بلساننا، يتحدى باسمنا… ونحن كنا نريد أن نعطيه ذلك التفويض عندما أطل علينا من شرفة السرايا الحكومية …قابلت يده المرفوعة …آلاف الأيدي الغضة تلوح للدولة التي تحمي ولا تهدد , تصون ولا تبدد , تشد أزر الصديق ,وترد كيد العدو ,….. إنها دولة الأمة على أنقاض دول معاهدات الأعداء والطامعين والمستوطنين، لا زال ذلك الشريط يمر أمام ناظري منذ ذلك اليوم تحمله عربة من الأحزان تارة ,أو عربة من الأحلام تارة أخرى …. عجيب غريب أمر هذه الذاكرة البشرية … فهي لا تختار بين الأحزان والأحلام اعتباطاً, لأن لها بكل تأكيد نواميسها التي لا ندرك كنهها….

المشهد بأبعاده الثلاثة ,لا يمكن أن ينسى , حتى الوجوه ما زالت محتفظة بنضارتها ,عيون الأطفال والعيون السود للصبايا والشباب و خطوط الزمن التي خطت على وجوه العجائزتاريخا من الامجاد، ما زالت صامدة كما هي …/50/ عاماً مرت على تلك اللحظة التاريخية ….وما زلت كلما مررت بتلك المدينة أتعمد أن أتفحص الوجوه أتعرف عليها بدقة أحدد موقع كل رجل،كل امرأة، أين كان يقف ,وماذا كان يلبس …. ويوماً بعد يوم كنت أدرك أننا كجيل نقترب من ساعة الرحيل فالأيادي الغضة لم تعد كذلك ,وبريق العيون السوداء بات يخفت ,وبصمات الزمن باتت واضحة على الوجوه خطوطاً وتجاعيد….فجأة تعود اللحظة،لحظة ميلاد العربية المتحده، لتخرجني من وساوسي ومخاوفي وتعيدني إلى طفولتي فأتخيل كل شيء كما كان , وكأنه يحدث اللحظة ….كان جمال عبد الناصر يتنقل على شرفة دار الحكومة، كنت على أحد الأسطحة المواجهة للشرفة من إحدى الجهات , ننتظر أن يطل علينا، يرفع يديه بالتحية لنا ثم يتجه إلى الجهة الأخرى فنصاب بالإحباط ,ثم يعود إلينا , ويتخيل كل واحد منا أنه يرفع يده إليه بالذات، وبعد أن ينتهي المشهد نلتقي بالذين كانوا على الجهة الأخرى لنتبارى على أي من الجهتين أطل أكثر ….ثم يحض كل واحد منا تلك اللحظة التاريخية ويمضي….

( 2 )

أطل على ذلك المشهد بعد مرور /50/ عاماً، محاولاً أن أكون أكثر تعقلاً، وفهماً لما جرى …. لم تكن الحماسة في تلك اللحظة التاريخية مجرد موقف عاطفي , أو حب جارف , أو افتتان بسمرة جمال عبد الناصر كانت لحظة فرح , لحظة اعتزاز ,لحظة إثبات وجود …. لم نكن نلتفت للمشككين ,ولا للمحذرين , كنا فقط نريد أن نعيش اللحظة ….فنحن ولدنا من صلب أباء وأمهات طحنتهم النكبة العربية …..البعض , جاهلاً , أو متجاهلاً , أو مزوراً , حاول أن يختصرها بنكبة فلسطين , والحقيقة أنها نكبة الأمة ….من محيطها إلى خليجها، ونكبة فلسطين ليست إلا واحدة من خمس وعشرين نكبة , الوطن , بات أشلاء ,والأمة باتت نتفاً , والدولة باتت دولاً بالعدد الذي أراده غزاة الخارج , وأحصنة طروادة الداخل ….. لهذا …. فقد ولدنا عجينة من الأحزان، والخيبات، والغضب …..ولهذا …. كانت لحظة ولادة الجمهورية العربية المتحدة لحظة فرح , تشبثنا بها , وباب للحلم انفتح بأن نقرر مصيرنا بأنفسنا ..، وبالتالي لم نكن نحتمل التأويل ,والتفسير ,والتحذير …. تمسكنا بها , طهرناها , قدسناها، كنا فقط نريد أن نعيش اللحظة ….. فالوحدة العربية باتت على الأبواب , والدول الفعلية إلى زوال ,فدعونا نصل إلى دولة الوحدة ,ثم فليتفلسف المتفلسفون ….. فتلك اللحظة كانت للفرح،وفقط،لا تحتمل إلا انتظار الهدير من المحيط والثورة من الخليج، وبالتالي لا وقت للسفسطة حول طبيعة الدولة ,ومن يحكمها , وكيف ؟ ولا وقت للحديث عن الديمقراطية، واللحظة لا تحتمل الدخول في تفاصيل الاشتراكية، ولا مكان للجدل الفكري والنظري ,فهذا كله من لزوم ما لا يلزم …. ولا مجال للنقد ,أو للرأي الآخر , ولا مكان للحديث عن الأخطار , أو للتحذير من أخطارالأخطاء …..،ولم تدرك عقولنا الغضة في ذلك الوقت أننا بذلك نمهد للانفصال،فالغاء الرأي والرأي الآخرلن يؤدي الاالى الكارثة،ولن يؤدي الا الى المنطق المرضي باننا دائما على صواب مطلق , والآخر غارق في الخطايا على أقل تقدير ….. وبالتالي إما معنا مصفقاً , وإما رجيماً يلقى في الزنازين ليتذوق نعيمها الشائع والمعروف ….. فعمم هذا كله مناخ الخوف لدى الجميع, وانكفأت الحاضنة الشعبية التي أقامت الجمهورية العربية المتحدة متخلية عن حمايتها إلى أجهزة أمنية قادرة وفاعلة , ولاذ الصادقون بالصمت مع الدعاء لحماية الجمهورية العربية المتحدة من الأعداء , بينما تقدم المنافقون الصفوف يصيحون، ويصنمون،وينافقون، ويعُدون معاول هدم الجمهورية العربية المتحدة في الوقت ذاته …..أو يعطلون فاعلية القوى الحقيقية القادرة وحدها تحمل مسؤولية حمايتها على أقل تقدير،وذلك عن طريق تشكيل حاجز كتيم بين قائد معارك التحرير العربي ,وبين الحاضنة الجماهيرية العربية الحقيقية لمشروع النهضة والتنوير والتحرير في الوطن العربي ……

( 3 )

لم يتأخر الهجوم المضاد، فبعد سنوات ثلاثة وبضعة أشهر، وفي ليلة ليلاء قبل فجر ( 28 ) أيلول / سبتمر / 1961 كان حفنة من الضباط في دمشق يصدرون الأوامر باعتقال الضباط المصريين وإعادتهم إلى مصر ، بينما كان الضباط السوريين في الإقليم الجنوبي يحزمون حقائبهم للعودة إلى سورية .. ثم يعلن الانفصاليون فصل الإقليم الشمالي عن الجمهورية العربية المتحدة التي لم تجد من يدافع عنها فعلياً فأجهزة الأمن التي نجحت في بث الرعب في نفوس الناس رفعت الراية البيضاء أمام بضعة انفصاليين وتحولت بالولاء للدفاع عن الانفصال والأنفصاليين….وبث الرعب في صفوف الذين تصدوا للانفصال بعد ذلك …

لم تستوعب عقولنا الغضة ما جرى ، ورغم أن الواقع الأليم بات واضحاً لا مجال لتكذيبه إلا أننا ، ومرة أخرى رفضنا المراجعة ، هربنا من السؤال: لماذا فشلنا نحن ..؟ …إلى إلقاء المسؤولية على الرجعية، والاستعمار، وأذناب الاستعمار ، وتوسعت مداركنا الثقافية لتشمل الشتائم، الإمبريالية الرأسمالية من قبل البعض ، أو النفوذ الشيوعي من قبل البعض الآخر ، ولم نرى في كل ما جرى إلا انه مؤامرة مدبرة نفذتها تلك القوى المعادية …

الآن ، وبعد 50 عاماً على تلك الأحداث الأليمة ندرك مدى القصور الذي كان يحكم تفكيرنا وسلوكنا .. لاشك أن الانفصال وقع بفعل أكثر من فاعل ، وبمؤامرة بين أطراف عدة ، لكن هل هناك عاقل على هذه الأرض يتوقع أن لا يحدث ذلك ..؟ هل يعقل أن يفرط المستعمرون وورثتهم بتلك الخريطة التي تقسم الوطن العربي ، والأمة العربية ، والتي دفعوا لرسمها دماء قلوب جنودهم وحشدوا لها عصارة عقول الاستراتيجيين الاستعماريين … دون أن يبذلوا كل ما يملكون من إمكانيات للحفاظ عليها ، بل وتجزئة المجزأ إذا كان هذا ممكناً وإيقاف ذلك المد الجماهيري القومي العربي الجارف والغاضب .. هل هناك عاقل يتوقع غير ذلك ..؟ .. وبالتالي فإن الغضب كان يجب أن يوجه إلى الداخل ، إلى البيت الوحدوي العربي ذاته .. والإجابة على السؤال : لماذا تمكنوا من اغتيال العربية المتحدة ؟ ثم كيف نعيد البناء ..؟ ثم كيف نحصنه من عفن الداخل ، وعواصف الخارج ..؟ ولأننا لم نفعل ، تحول حلم الوحدة العربية إلى سراب في تلك الصحراء العربيه ،و إلى وهم في بريتها ، وتعمقت الإقليمية بل وانتعشت علاقات ما دون الإقليمية ، وبات الطريق مفتوحاً أمام الصهاينة إلى نكبات الخامس من حزيران ( يونيو ) 1967 التي أدت فيما أدت إليه إلى توقف قلب ذلك الرجل الذي كان يعلن في كل مناسبة أن الجمهورية العربية المتحدة باقية في قلوب الأجيال العربية المتعاقبة ، وأنها لم ولن تكون في ذمة التاريخ ، وأن راياتها ، وأعلامها ، وأحلامها ستبقى مرفوعة في الإقليم الجنوبي للجمهورية العربية المتحدة ، إلى أن تنطلق مرة أخرى في رحلة المشرق والمغرب بين المحيط والخليج …. لكننا , ومرة أخرى لم نتعلم الدرس ….لقد عرفنا بالفعل كيف نشيع جمال عبد الناصر في مواكب مهيبة امتدت من تطوان إلى الأحواز لا مثيل لها في التاريخ العربي ….. لكننا وللأسف الشديد ,لم نعرف كيف نحيا جمال عبد الناصر، عرفنا كيف نحمل نعشه في القاهرة , ونعوشه الرمزية في كل مدينة، وبلدة، وقرية عربية …..لكننا لم نعرف كيف نحمل استراتيجيته , ومبادئه الثابتة والأصيلة ونحررها من الأساليب الفاشلة , والنظم العاجزة , والمنظمات الشكلانية ….لم نعرف كيف نحدد موقفاً من النظام الشمولي الذي أدى جزء منه إلى تسهيل تنفيذ المؤامرة بفصل الإقليم الشمالي عن الجمهورية العربية المتحده ,ثم أدى ماتبقى منه إلى نكبات الخامس من حزيران 1967 ,ثم قام ما تبقى من ذلك النظام بعد غياب جمال عبد الناصر بالانقلاب على الإقليم الجنوبي للجمهورية العربية المتحدة فأسقط أعلامها، وراياتها , وانقلب على الخط الاستراتيجي للنضال القومي ,وذهب وما زال يذهب بمصر إلى الصفقات مع المستوطنات الصهيونية .والتواطوء مع أعداء المشروع القومي العربي في هذا العالم …..

باختصار، لم نعرف أن نحدد موقفاً حاسماً من طبيعة النظام الذي خذل النهج الاستراتيجي لجمال عبد الناصر حياً , وانقلب على ذلك النهج بقضة وقضيضة بعد غيابه …… وما زال ذلك النظام يمارس هذا الانقلاب حتى هذه اللحظة …. حيث حول، ويحول مصر، وغير مصر من جمهورية عربية متحدة و كقاعدة لانطلاق مشروع التحرر والوحدة في الوطن العربي , إلى قاعدة للاتجاه المعاكس على طول الخط ….. (يتبع)

حبيب عيسى



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق