الخميس، 8 أكتوبر 2009

إسرائيل أولاً!

صبحي غندور*

في منطقةٍ عربية يزداد فيها استخدام شعار: "الوطن أولاً"، يترسّخ واقع خدمة مصالح "إسرائيل أولاً". إذ كيف يمكن تفسير قرار السلطة الفلسطينية بدعوة مؤتمر جنيف لتأجيل البحث في تقرير المحقّق الدولي غولدستون حول جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل في حربها الأخيرة على غزّة؟!

بل كيف يمكن قبول العذر الذي أعطاه ممثلو بعض الدول العربية والإسلامية بأنّهم تجاوبوا في جنيف مع ما طلبه الجانب الفلسطيني في طلب تأجيل البحث بالتقرير، فجاء العذر "العربي والإسلامي" أقبح من الذنب "الفلسطيني".

أليس واقع خدمة المصالح الإسرائيلية هو السائد الآن في عموم أزمات المنطقة وحروبها الأهلية الداخلية؟!

أليس أساس المشكلة على الصعيد الفلسطيني هو إخراج الصراع العربي/الإسرائيلي من دائرته العربية الشاملة وجعله الآن قضية "مسار فلسطيني/إسرائيلي" متعثّر ويحتاج إلى "تنشيط"؟!

ثمّ متى كانت القدس قضيّةً خاصّةً فقط بالفريق الفلسطيني المفاوض بينما هي مدينة مقدّسة معنيٌّ بها وبمستقبلها، في ظلّ محاولات تهويدها لأكثر من أربعين عاماً، عموم المسلمين والمسيحيين في العالم؟!

ربّما تكمن المشكلة في كيفيّة فهم وتطبيق شعار "الوطن أولاً" حيث كانت بداية التعامل مع هذا الشعار حينما قام الرئيس المصري السابق أنور السادات بتوقيع المعاهدة المصرية/الإسرائيلية رافعاً شعار: "مصر أولاً"، ومتراجعاً عمّا كانت عليه مصر من موقف مبدئي بعد حرب العام 1967 بأنّ "القدس قبل سيناء والجولان قبل سيناء والضفّة وغزّة قبل سيناء" .. فهكذا كان موقف جمال عبد الناصر الذي رفض الإغراءات الأميركية والإسرائيلية باسترجاع سيناء مقابل تخلّي مصر عن دورها والتزاماتها في الصراع العربي/الإسرائيلي.

ثمّ تكرَّس هذا النهج الانفرادي في التسويات مع إسرائيل من خلال توقيع اتفاقية أوسلو بين إسرائيل ومنظمة "التحرير" الفلسطينية، حيث أثبتت الأعوام الماضية أنّ ما كان "أولاً" ليس هو "الوطن الفلسطيني" بل قيادة منظمة "التحرير" الفلسطينية التي تحوّلت إلى قيادة لسلطة فلسطينية على الشعب الفلسطيني المقيم فقط بالضفة العربية المحتلّة، أي "سلطة" على "شعب" وليس على "أرض"، فالأرض ما زالت تحت الاحتلال الإسرائيلي الغاشم. فأين هو "الوطن أولاً"؟ أين هو الوطن الفلسطيني بعد 16 عاماً من اتفاق أوسلو؟ أين هو في الحدّ الأدنى تمثيل كل الشعب الفلسطيني الموزَّع الآن بين "ضفّة وقطاع"، وبين "فلسطينيّي الداخل والخارج"، وبين "لاجئين ومهاجرين في الشتات"، وبين ضحايا "النكبة والنكسة"!!

وكم كانت صفاقة مضحكة أن يدعو نتنياهو محمود عباس للأخذ بأحد مثالين: أنور السادات أو ياسر عرفات، علماً أنّ كليهما وقّعا اتفاقيات مع إسرائيل، وكلاهما مات مقتولاً!! والأشرف طبعاً لأي مسؤول عربي أن يُقتَل على أيدي إسرائيل وليس بأيدي شعبه!

أمّا على الصعيد العربي العام، فإنّ شعار "الوطن أولاً" لم يكن من أجل تحريض المواطنين على الولاء الوطني أولاً والتخلّي عن الانقسامات الداخلية القائم معظمها على انتماءات طائفية أو مذهبية أو أصول إثنية، بل كان الشعار وما زال يتمّ طرحه واستخدامه لتبرير الابتعاد عن الصراع العربي/الإسرائيلي والتخلّص من الواجب الديني والقومي في المساهمة بتحرير الأراضي المقدسة في فلسطين. أيضاً، جرى استخدام هذا الشعار (الوطن أولاً) في مواجهة دول عربية أخرى وليس طبعاً في مواجهة إسرائيل وأطماعها في الأرض والثروات العربية.

ولعلّ رؤية ما حدث في السنوات الأخيرة، وما زال يحدث، من إشعال لمناخات انقسامية داخلية في العديد من البلدان العربية، لَتأكيدٌ بأنّ ما تحقّق "أولاً" هو خدمة المشاريع الإسرائيلية في تفتيت المنطقة العربية وأوطانها إلى دويلات طائفية ومذهبية متصارعة تكون فيها "الدولة اليهودية" هي الأقوى وهي المهيمنة على باقي الدويلات.

فالهدف هو تكريس إسرائيل "وطناً لليهود" بشكلٍ موازٍ مع تدمير وانهيار "الأوطان" الأخرى في المنطقة.

أمّا "الوطن الفلسطيني"، فممرّه من خلال القبول ب"الاستيطان" و"التوطين" معاً. أي وطن فلسطيني ممزّق أرضاً وشعباً.

ولا أعلم من بدأ باستخدام هذه الكلمات المتصلة بأصولها اللغوية (وطن – توطين – استيطان) لكنّها الآن مطلوبة معاً في مطبخ التسويات السياسية للقضية الفلسطينية.

مصالح "إسرائيل أولاً" ليست سائدة بالمنطقة العربية فقط، بل الأمر هو كذلك في الغرب عموماً وأميركا خصوصاً. فكثيرٌ من سياسات واشنطن وحروبها الأخيرة كانت من أجل "مصالح إسرائيلية" لا "مصالح أميركية"، وحينما تحاول أي إدارة أميركية تحقيق مصالح "أميركا أولاً"، تضغط القوى الصهيونية داخل أميركا فيتمّ "تصحيح" الأولويات والقرارات، تماماً كما يحدث حتى الآن مع إدارة الرئيس أوباما الذي يحاول تنفيذ ما جاء في توصيات بيكر/هاملتون (نوفمبر 2006) بشأن الشرق الأوسط وأزماته، لكنّه (أي أوباما) يضطرّ للتراجع أمام الضغوط الإسرائيلية، كما جرى مؤخّراً في التراجع عن شرط تجميد المستوطنات قبل استئناف المفاوضات، وكما حصل أيضاً في الرضوخ للتهديدات الإسرائيلية حول تقرير غولدستون.

فالتحرّك الأميركي يتواصل لإعادة التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين، تحت حجّة السعي الأميركي لإعلان دولة فلسطينية، وهو سعي نحو المجهول إذ لا يوجد موقف أميركي واضح من حدود هذه الدولة المنشودة أو عاصمتها أو طبيعة سكانها (مصير المستوطنات) أو مدى استقلاليتها وسيادتها!. فالمبادرة العربية التي أقرّتها قمّة بيروت، وكذلك هو الموقف الفلسطيني، يطالبان بدولة فلسطينية على كامل الاراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وبأن تكون القدس عاصمتها، وبحلٍّ عادل لقضية الاجئيين، فأين هو الموقف الأميركي من ذلك؟!.

ممنوعٌ على منظمات الأمم المتحدة حتى حقّ الإدانة اللفظية لمجازر إسرائيل في غزة، فكيف بالتحقيق الدولي بهذه المجازر؟

أيّ منطقٍ هذا الذي يعطي لواشنطن ولمجلس الأمن حقّ إقرار محكمة دولية عقب جريمة اغتيال الحريري في لبنان، ولا يعطي هذا المنطق نفسه الحقَّ بتشكيل لجنة تحقيق دولية في جرائم إسرائيل؟

أيّ حكومات في المنطقة أو العالم ترضى لنفسها أن تكون ظلاً صغيراً للسياسة الإسرائيلية، تفعل ما تريده تل أبيب لا ما تفرضه مصالح دولها وأوطانها؟

وستبقى "إسرائيل أولاً" طالما أنّ الواقع الفلسطيني تحديداً والعربي عموماً هو على حاله من التشرذم وانعدام وحدة الموقف، ومن الفوضى في العلاقات والبرامج والمؤسسات، ومن أولوية مصالح الحاكم على الأوطان.

فالفوضى في الحقّ لا يمكن لها أن تغلب الباطل المنظّم.

وستبقى الأوطان العربية تعاني من صراعاتها الداخلية ومخاطر تفتّتها طالما هناك ضعف في مفهوم وفي تطبيق معنى "المواطنة". فحينما يكون فعلاً: "المواطن أولاً"، يمكن أن يتحقّق شعار: "الوطن أولاً"!!

*(مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق