الأحد، 1 نوفمبر 2009

محطات في مسيرة البرنامج النووي العراقي الحلقه الأولى

الدكتور هيثم الشيباني

بعض الوفاء

على العكس مما يتوهم الكثيرون فان المنصب الوظيفي ليس للتشريف والتكبر بل للخدمة والتفاني . وحسب هذا المفهوم يمكن أن تسقط عناوين الى القاع وترتفع أخرى الى القمه .

لقد غطت فترة عملي في منظمة الطاقة الذريه مرحلة مهمة جدا من عمري الوظيفي تموز 1981 – تموز 1991 والتي تزامنت مع فترة كنت أراها مثل اللؤلؤة النادرة في تاج مملكة البرنامج النووي العراقي وأنا التلميذ . وهذا الوصف لا يعني أن العمل فيها كان نزهة بل كان تعبا حتى الأعياء وساعات طويلة من العمل دون كلل وطموح لا يعترف بالتوقف وانضباط عال حتى الصرامه.

وحيث أن جسد الأمة صار اليوم مليئا بالطعنات فقد وقعت عملية كتابة التأريخ في مصيدة الصراع بين الموضوعية التي تتطلب التأني والأنتظار كي نخرج من هول المصائب وبين الخوف من هروب المشهد عن عدسات المصور حتى لا تضيع تفاصيل اللقطه.

سبق عملي في المنظمه , وبعدها محطات مهمة طبعت صورها في ذاكرتي أبرزها ما أحدثته شخصية الراحل خليل ابراهيم حسين الزوبعي .

يتعذر على من يتحدث عن البرنامج النووي العراقي أن يتجاهل دور الراحل في هذا العنوان المشرق من سفر الأمه . (1)

أطل علينا أول مرة يبهرنا في محاضراته الفريدة في التأثير والمضمون في عام 1959ونحن طلاب على مقاعد الدراسه . منه سمعنا لأول مرة بمفاهيم استهوت عقولنا مثل السنة الضوئيه ونظرية اينشتاين النسبيه وعلاقتها بالأنشطار النووي الذي أدى الى صناعة السلاح النووي وبالتالي قصف مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانييتين في آب 1945 مما أحدث خسائر بشريه وماديه مروعه بين السكان المدنيين والمباني والبنى التحتيه وبالتالي استسلام اليابان .

بعد قيام ثورة 1958 وهو من منتسبي حركة الضباط الأحرار لم يستغل منصب معاون مدير الأستخبارات العسكريه ( المدير هو الشهيد رفعت الحاج سري) وانما سلط اهتمامه على البناء العلمي في الدوله وصار يقتنص فرص بناء الكادر من المصادر الشرقيه والغربيه دون تأخير وكأنه أراد التسابق مع الزمن وحسنا فعل اذ سرعان ما غيرت السياسه الكثير من تلك الفرص مترجما مبدأ ننهل من كل مشرب مع الأحتفاظ بالأستقلال و الكرامه والثوابت الوطنيه . فانطلق بحركة وتنسيق لا يتوانى من أجل هذا الهدف . كان يحث على الثقافة العلميه والعسكريه خصوصا عن العدو الصهيوني ويشجع على النشر في هذه المجالات . معلوماته الزاخرة جعلته يشبه الموسوعة التي تمشي على الأرض .

كان يتمتع بقوة اقناع المسؤؤل بالحجة والبرهان وقد استحصل في عام 1961 موافقة المرحوم الزعيم عبد الكريم قاسم على مشاركة المرشحين الى دورات تدريبيه في أمريكا كان قد أمر بايقافها لأسباب سياسيه. وهو المؤسس للصنف الكيمياوي في القـوات المسلـحة العراقية في عام 1965 الذي تطور لاحقا بقفزات نوعيه باهره بجهود الخيرين من الذين خلفوه فخلقت قواعد بشريه احسنت استيعاب معارف الفيزياء والكيمياء والهندسه الألكترونيه وغيرها وتوسع التأهيل الجامعي وفتح طريق التعشيق بين الوزارات .

استثمر موقعه في لجنة الطاقة الذريه في اشراك عدد من المختصين والفنيين من وزارته في دورة علميه في أول ستينيات القرن الماضي في معهد التدريب للنظائر المشعه الكائن في منطقة الشالجيه . عبرت الدورة عن قدرته في تخطي الروتين بين الوزارات واستثمار مناصبه ومهامه العلميه في وزارات متعدده منها لجنة الطاقة الذريه للتعشيق وتبادل المنفعه العلميه وتوسيع دائرة المستفيدين من أبناء البلد الواحد في معارف علوم الفيزياء الذريه والفيزياء النوويه والأشعاع المؤين وطرق قياسه . قام بالتدريس في هذه الدوره العالم الرائع الدكتور جعفر البقال رحمه الله فقد كان مثالا للتواضع باقتدار وأسأل الله العون كي أعطيه حقه في مقال قادم.

لآ شك أن عمله في مجال الطاقة النوويه كان مدعوما بالأرادة السياسيه في أعوام ما قبل 1968

الا أنه كان يتحرك بمبادرات شخصيه فاقت الأداء النمطي الروتيني .

تضمنت برامج التدريب التي صممها العميد خليل ابراهيم على اشراك المتميزين من المختصين والفنيين في دورات متعاقبه في الولايات المتحده والأتحاد السوفياتي السابق واستقدام الخبراء السوفيات للتدريب بناءا على الشروط التعاقديه التي فرضها في كل صفقة شراء لمعدات الوقايه من أسلحة الدمار الشامل وفي مقدمتها تصليح وتعييرأجهزة كشف وقياس الأشعاع المؤين.

لا شك أن العلاقة بين المرحوم خليل ابراهيم حسين والشهيد رفعت الحاج سري قد توطدت أثناء حرب فلسطين وكلاهما من صنف الهندسه وأن مناخ الجهاد ضد العصابات الصهيونيه خلق نواة تنظيم الضباط الأحرار التي انتميا اليها .

أصدر سبعة أجزاء من موسوعة ثورة 14 تموز وكان في نيته اكمال الموسوعة الا أن أمر الله كان أسرع . أن ما يميز هذه الموسوعه هو الموضوعية والأمانة في نقل الحدث من أصحابه وبتوقيعهم الخطي وهذه المنهجية في توثيق التأريخ نادرة ورائعه وعندما كتب عن الثوره وهو من صانعيها لم يفرض تلك الصفه على توثيق الحدث وتحليله.

على الرغم من تمتعه بالقيادة الصارمه وجديته في العمل الا أن ذلك لم يسبق رعايته الأبويه والأنسانيه لكل من عمل معه وله في هذا الوصف مواقف مشهودة .

مسألة مهمة تستحق أن تذكر وهي أن الراحل قد شق طريقه بمؤهلاته الشخصيه ومثابرته وكفاحه دون أن يوظف السياسة وهو من الفاعلين في حركة الضباط الأحرار ولا العشيرة وهو الزوبعي ولا أي عنوان ضيق فقد كان يؤمن بانتماءه الى العراق والأمة العربيه . صارت هذه الصفة نادرة في دنيا هذا اليوم.

هناك تفاصيل مهمة أخرى عن هذه الشخصية الفذه أسأل الله أن أنشرها في القادم من الزمن ان شاء الله .

لقد كان يؤمن رحمه الله بضرورة بناء صرح عراقي للطاقة الذريه صرح علمي سلمي شامخ يضم نخبة خيرة من أبناء العراق الغيارى وكان في أيامه الأخيره سعيدا بما سمعه عن النهضة التي حققتها منظمة الطاقة الذريه على يد ابنائها الغيارى و صار كأنه يقوي جسمه النحيل بمدد من تلك النهضه ليباهي بها الدنيا.

الا أن أعداء العراق والأمه كانوا يخططون لشيئ آخر فقد كان العدوان على العراق في عام 1991 بالمرصاد للبرنامج النووي والمنشآت التي شيدت ضمن اطاره وبالأخص الموجود على مساحة موقع التويثه النووي مثل مفاعل 14 تموز الروسي المسجل لدى الوكاله الدوليه للطاقة الذريه ثم صدر بعد وقف اطلاق النار قرار مجلس الأمن الرقم 687 ( 1991 ) في 3 نيسان 1991 المجحف بحق العراق الذي كاد أن يحرمه حتى من التنفس . ثم أعلن العراق رسميا انتهاء البرنامج النووي في 10 نيسان 1991 . كانت ساعات ودقائق العدوان على المنشآت النوويه طيلة 42 يوما تقطع شرايين القلب واستوجبت من رجال الطوارئ الأندفاع نحو بؤر التدمير المروع والخروج عن السياقات المألوفه في تجارب الدول النوويه لمواجهة الحالات الطارئه وقد كانت العاطفة تسبق العقل في كثير من الأحيان . سوف نأتي على تجربة هيئة الطوارئ الأستثنائيه النادره الزاخرة بالدروس والعبر في حلقة قادمة ان شاء الله .

رحل العملاق خليل ابراهيم حسين في السابع عشر من كانون الأول عام 2002 الى الحياة الآخره . نسأل الله له الرحمه والفردوس الأعلى وعذرا لك يا معلم الأجيال ان كان الكلام أقل مما تستحق .

بعض ما كتب عن الراحل

قال عنه الاستاذ حميد المطبعي في (موسوعة اعلام العراق في القرن العشرين) وكتب عنه باحثون عدة منهم الأستاذ الدكتور ابراهيم العلاف ما يلي : (2)

ولد خليل ابراهيم حسين الزوبعي في ناحية العزيزية في محافظة واسط ( الكوت)سنة 1924 وفيهاأكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة والاعدادية .
دخل الكلية العسكرية في بغداد، وتلقى علومه العسكرية العليا في المدارس العسكرية في الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي ( السابق) وبريطانيا ومصر والمانيا ،وحصل على شهادات عليا كان منها حصوله على شهادة الماجستير في اقتصاديات البترول والطاقة . عمل في مناصب عديدة كان أبرزها عضويته في لجنة التنسيق للهيئة الفنية الثانية في مجلس الاعمار للفتره 1957 ـ1958 ومعاون مدير الاستخبارات العسكرية بعد ثورة 14 تموز 1958 عندما كان مديرها المرحوم العقيد الشهيد رفعت الحاج سري . ترأس تحرير المجلة العسكرية لبضعة سنوات. اصبح مسؤول التوجيه المعنوي في وزارة الدفاع لفترة من الزمن ثم شغل منصب وزير الصناعة 1967 ـ 1968 . له مؤلفات عديدة زادت على الـ (20) كتابا. ترجم بعض الكتب . كان عضوا في اتحاد المؤرخين العرب .
كان من تنظيم الضباط الاحرار في العراق ، وقد عرف بين صحبه واصدقائه ب ( خليل رويتر)، لما كان يحمله من ذاكرة حادة وقادة، ومتابعة متميزة لما يجري حوله، ولثقافته التاريخية،والاسلامية ، والعلمية، والعسكرية، والاقتصادية، والذرية .

أضاف الى سلسلة كتبه عن ثورة 14 تموز مجموعة أخرى من الكتب الجديدة وصل عددها الى (اربعة كتب) حول ( العراق في الوثائق البريطانية - 1958 1959 ) .
كان الاستاذ خليل ابراهيم حسين الزوبعي يحفظ تاريخ العراق المعاصر في أدق مراحله ، وذلك من خلال المعلومات القيمة التي أخذها من رجال ذلك العهد ، سواء كانوا ضباطا أو قادة عسكريين او وزراء او رؤساء وزارات ومن وثائق بريطانية وعراقية وجهده في هذا الجانب يعد مكملا لجهد مؤرخ العراق الكبير الراحل السيد عبد الرزاق الحسني صاحب ( تاريخ الوزارات العراقية) 1921 ـ1958 .
اشترك المرحوم الزوبعي في حرب فلسطين 1948، واسهم في تدريب الثوار الجزائريين ضد الاحتلال الفرنسي . صار عضوا مؤسسا في ادارة المجلس العربي المشترك للطاقة الذرية. وشغل عضوية لجنة الطاقة الذرية 1957 ـ 1968، وتولى منصب المحلق العسكري في السفارة العراقية بواشنطن 1967 وشارك لاكثر من مرة في اجتماعات مجلس الدفاع العربي المشترك .
كرم الاستاذ الزوبعي في مناسبات عديدة وكان آخرها تكريمه من قبل مؤسسة بيت الحكمة ( بغداد) التابعة لمجلس الوزراء في الوقت الحاضر . وقد جرى احتفال كبير كتبت عنه الصحافة العراقية يوم 24 تشرين الثاني سنة 2002 ومما قالته الصحافة انذاك ما يلي:

لقد تخرج بتفوق ضابطا في عام 1943 وحصل على شهادات جامعية اولية وعليا في اختصاصات مختلفة وألف اكثر من سبعين كتابا وبحثا مطبوعا في اقتصاديات الطاقة والنفط والذرة والتاريخ والاقتصاد الاسلامي . لقد كان مؤرخا موضوعيا منصفا شجاعا في قول الحق صاحب مروءة أمينا

فالرجل لم يكف عن تقديم مالديه من وثائق وكتب ومعلومات الى من يطلبها من طلبة الدراسات التاريخية العليا
( 1 )استراتيجية البرنامج النووي في العراق في اطار سياسات العلم والتكنولوجيا , همام عبد الخالق عبد الغفور وعبد الحليم ابراهيم الحجاج , مركز دراسات الوحده العربيه , بيروت , نيسان 2009, ص48.
( 2 )خليل ابراهيم حسين الزوبعي والتأريخ العراقي المعاصر , أ.د.ابراهيم خليل العلاف,

جريدة فتى العراق (الموصلية )العدد193 6 كانون الاول 2007 .

تشرين الثاني 2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق