الأحد، 1 نوفمبر 2009

هوامش على دفتر المطبعين الجدد

حين يصير التطبيع مُبررا والرفض مُستهجنا والاختراق من الداخل

محمود عبد الرحيم:

اربعة حوادث متتالية هذا العام تؤكد الاختراق الاسرائيلي للجسد الثقافي العربي،وتشير الى ان مسار التطبيع الشرير او بالاحرى مخططه يسير بخطوات واسعة،ويحرز نجاحات واختراقات في جدار الممانعة والرفض للاعتراف بالكيان الصهيوني واقامة علاقات مع رموزه ونخبته وكسر جدار العزلة المفروض،على مدى سنوات طويلة منذ اقدام الرئيس المصري الراحل انور السادات على توقيع معاهدة كامب ديفيد التى كانت بمثابة صندوق باندورا المملوء بكل الشرور.

ولعل احدث حدث في هذا السياق زيارة الممثلة التونسية هند صبري للاراض المحتلة بتأشيرة اسرائيلية ومشاركتها في مهرجان القصبة السينمائي في ظل حضور اسرائيلي، وسبقها تجرأ رئيس تحرير مجلة الديمقراطية هالة مصطفي على استقبال السفير الاسرائيلي بمقر مؤسسة الاهرام،واقدام الشاعرة ايمان مرسال على ترجمة ديوانها اسرائيليا من قبل دار نشر تابعة لاتحاد المستوطنين، الى جانب تراجع وزير الثقافة المصري فاروق حسني عن موقفه من التطبيع بدعوة المايسترو الاسرائيلي بارنبيام لاقامة حفل بدار الاوبرا المصرية،وسط حشد كبير من المثقفين المصريين،ابان حملته الدعائية لرئاسة اليونسكو.

ولا شك ان كل هذه الوقائع تثير الانزعاج الواسع،وتدعو للتساؤل عن مصير مقاومة التطبيع،خاصة الثقافي،تلك الورقة الاخيرة التي بيد العرب لحصار اسرائيل واشعارها الدائم بانها كائن دخيل علي المنطقة ووجودها غير شرعي،وان فرض السلام او الاستسلام على الانظمة العربية ليس بالضرورة ينسحب على الشعوب التي تعرف بحسها التاريخي وفطرتها السليمة من هو عدوها ومصدر التهديد لامنها واستقرارها وهويتها و مستقبلها.

المثير للدهشة،انه في الوقت الذي تزداد فيها المقاطعة الثقافية لاسرائيل في اوروبا وكندا ومناطق كثيرة من العالم من قبل مثقفين وباحثيين وفنانيين،يهرول مثقفونا وفنانونا الى التطبيع،بعضهم ساخرا من مناهضة التطبيع،هذا التجلي الشعبي المعبر عن الضمير الجمعي العربي،وبعضهم مبررا ما يقوم به رافعا شعارات مخادعة من قبيل ثقافة السلام ومعرفة الاخر وتجاوز عقد الماضي الايدلوجية،وبعضهم يذهب بعيدا ويدعي دعم الشعب الفلسطيني او يتحدث عن انتهاء الصراع وانحصاره في صراع سياسي اسرائيلي فلسطيني،لا دخل للاخرين به،خاصة من وقعوا على اتفاقات سلام.

وفي المحصلة النهائية يتحقق الهدف الذي انهك الكيان الصهيوني لسنوات،على يد هؤلاء المثقفين الذين خانوا ضمائرهم،منهم الباحث عن شهرة او دور او جائزة دولية،حيث صارت اسرائيل بوابة العبور للطموحات،ومنهم من تعرض لغسيل دماغ او استقطاب خلال اقامته في الغرب،فصارت المسافة بينه وبين القضية الفلسطينية بعيدة،والنظرة للاسرائيليين لاتختلف عن النظرة المحايدة او حتى المتعاطفة لقرينه الامريكي او الاسترالي او الجنوب افريقي .

وتبدو حالة هند صبري جديرة بالتوقف عندها طويلا،لاكثر من سبب،ربما لانها الاحدث،وربما لانها دخلت في دائرة الجدل والتبرير والتماس الاعذار،والاخطر محاولة اصباغ دور البطولة على ما قامت به من خطوة اضعها في خانة الجريمة الاخلاقية،بانتهاكها للاجماع العام الشعبي والثقافي،بل وفتحها النار الاستباقي على مناهضي التطبيع وادعائها ان التطبيع "كلمة مضللة ومختلقة".

والمؤسف ان هذه الممثلة بدلا من ان تخجل مما فعلته وتسعي للاعتذار،تفاخر به،بل وتدعو زملائها الفنانيين الى تكرار نفس النهج،لان مناهضة التطبيع برأيها وعدم الذهاب للارض المحتلة يضر بالقضية الفلسطينية، الى جانب انها تفترض ان الذي يفعل هذا جاهلا ولا يعلم حقيقة الصورة.

والمؤسف اكثر ان يعلن رئيس اتحاد الفنانيين العرب اشرف زكي على الهواء في برنامج "البيت بيتك"موافقته على ما ذهبت اليه،بدلا من محاسبتها وتوقيع اقصى جزاء ممكن عليها،جراء كسرها لقرارات الاتحاد برفض كل اشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني،ومن بينها الذهاب الى الاراضي الفلسطينية تحت الاحتلال،فضلا عن حديثهما عن ترتيب زيارة لوفد من الفنانيين العرب الى رام الله ، والسؤال لزكي هل سلفه الكاتب المسرحي الكبير سعد الدين وهبه كان اقل وعيا منه واقل وطنية ليحظر مثل هذه الزيارات ويتصدي لاية محاولة من مثل هذا القبيل حتى وفاته؟ ام انه سقط في فخ مجاملة زميلة ممثلة دون ان يعي الموقف جيدا وابعاده الخطيرة التي تنذر باستغلال الساحة الفلسطينية كبوابة خلفية للتطبيع.

وخطورة ما قامت به صبري يكمن في كونها فنانة مشهورة،ما يجعل امكانية تأثيرها على الاخرين كبيرة،فما بالك لو كان خطابها يحمل الكثير من المغالطات ويغيب عنه الاستيعاب السياسي والثقافي لابعاد قضية التطبيع الثقافي والتطبيع الشعبي بشكل عام،فضلا عن الدلالات الخطيرة لما تطرحه،ويصب في خانة ضرب مفاهيم ومبادئ مستقرة توافق عليها الجميع لسنوات والسير في تيار التبرير لخطأ كبير ان لم يكن خطيئة كبرى،الى جانب اللجوء الى خلط الاوراق واعتبار ما قامت به هي واقرانها من خطوات تطبيعية ذي اهداف نبيلة لصالح الفلسطينين اوالسلام،ما يقود في النهاية الى احداث حالة سيولة وتمييع للمواقف المتوافق عليها من الجماعة الثقافية ومن الرأي العام العربي في شأن رفض كل اشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني،والمستفيد بالطبع من هذه الحالة هو العدو المتربص بنا والذي يجد في هذه الاجواء الفرصة مواتية لاختراقاته واستقطاباته وتفتيت الصخرة الصلبة التي تقف في وجهه.

وثمة حقائق لا يجب ان تغيب عنا وسط ادعاءات هند صبري وانسياق رئيس اتحاد الفنانيين العرب وراءها،اولها ان الذهاب الى الضفة الغربية يعني الذهاب الي اراض تحت الاحتلال الاسرائيلي،ومن ثم يستلزم الامر الحصول على تأشيرة سفر اسرائيلية وهذا في حد ذاته اعترافا بالسيادة الاسرائيلية وتطبيعا ديبلوماسيا،وهذا يضر بالقضية الفلسطينية ولا يفيدها كما ادعت ، بل يضعف الموقف الفلسطيني،سواء المفاوض او المقاوم باعتراف شخصيات فلسطينية لها مصداقيتها.

كما ان تذرعها بلقاء رئيس السلطة الفلسطينة محمود عباس او رئيس وزرائه سلام فياض والتفاخر بلقائهما وترحيبهما بخطوتها لايحسب لها،انماعليها،لان ارتباطاتهما باسرائيل معروفة، فضلا عن شعبيتهما المنهارة وعدم وجود اجماع فلسطيني عليهما،ومن ثم لا يمكن القول انهما يمثلان الشعب الفلسطيني ومصالحه.

ولاشك ان تعطيل التصويت على"تقرير جولدستون" الذين يدين اسرائيل في المرة الاولى،وقبله الموقف المعلن من ادانة المقاومة المسلحة للاحتلال،دليل واضح على ما اذهب اليه،كما ان الموقف من التطبيع - من الاساس - يتجاوز مواقف الحكومات ولا يمكن تبريره بوجود فلسطينيين يجالسون اسرائيليين او يتعاونون معهم،انطلاقا من قاعدة ان الصراع مع اسرائيل عربيا وليس فقط فلسطينيا.

ثالثا وهذا هو الاهم ان مهرجان القصبة نفسه ساحة للتطبيع السينمائي بفضل المشاركة الاسرائيلية فيه،واذا كانت صبري تجادل بانها ذهبت لاراضي فلسطينية لدعم الفلسطينين، فماذا سترد علي مشاركتها مع سينمائيين اسرائيلين،ومن بينهم المخرجة الاسرائيلية الفرنسية سيمون بيتون صاحبة فيلم " راشيل"؟!

واذا اردات"سفيرة النوايا الحسنة" الوقوف مع الشعب الفلسطيني كما تدعي،فلماذا رام الله المفتوحة على العالم والتي تنعم بالمساعدات الامريكية والاوروبية مكافأة لهدوئها وملاحقة المقاومين،وليس غزة المنكوبة التي لا تزال تعانئ آثار الحرب والحصار المتواصل على مدى سنوات،مثلما فعل النشطاء الاوروبيون الذين ركبوا البحر وجازفوا بحياتهم ولم يأبهوا للتهديد الاسرائيلي.

ونأتي للنقطة الاهم وهو التطبيع او بالاحرى مناهضته التى تشكك فيه وتصفه بالاختلاق المضلل،وهنا يجب التذكير بمن هي اسرائيل وتاريخ المذابح الصهيونية وكيف تم زرع هذا الكيان في الارض العربية بالقوة وعلى انقاض وجثث شعب عربي لخدمة مصالح الامبريالية الغربية التي لا تخفى على احد.

واذا كانت صبري لم تقرأ التاريخ فاني اسألها:الم ترى طوال حياتها بام عينيها المجازر وحروب الابادة والتنكيل بالشعب الفلسطيني والتي اخرها كانت حرب غزة التي رأى الجميع ويلاتها وفظائعها علي التليفزيون.. هل يمكن بعد هذا ان نتصالح مع هذا العدو الاسرائيلي ونتجاوز عن جرائمه بحقنا ونشوه المقاومة الشعبية لوجوده ورفض الاعتراف به؟!.

والذي يجب ان تعلمه ويعلمه الجميع،ان مناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني ليست فقط واجبا اخلاقيا،وانما ايضا آلية من آليات دفاع الامة العربية عن نفسها من التهديد الصهيوني،واحدى تجليات الرفض الشعبي لمحاولات نسف ذاكرتها التاريخية او تشويهها،وحرف بوصلتها بعيدا عن مصدر الخطر على هويتها ومن هو عدوها في الماضي والحاضر والمستقبل،لانه باي قانون وباي منطق لا يمكن مساومة السارق على سرقته ومنحه صك اعتراف بانه صاحب الحق،او الصفح عن جريمته التي لا تسقط بالتقادم،واعتبارها من آثار الماضي التي يجب التغاضي عنها و فتح صفحة جديدة،فضلا عن ان تطبيع الحكومات ليس بالضرورة ملزما للشعوب،خاصة اذا كانت هذه الحكومات غير ديمقراطية ولا تحظى مواقفها باية شرعية شعبية،بالاضافة الى ان الصراع مع الكيان الصهيوني صراع حدود ووجود في ذات الوقت،وارجاع شبر هنا او هناك او ممارسة ضغوط امريكية اوحتى شن حروب لا يعني اجبارنا على قبوله في المنطقة وفرض مخطاطاته وهيمنته السياسية والاقتصادية والعسكرية.

وما يجب ان نشدد عليه ان القطيعة مع الشعب الفلسطيني غير موجودة اصلا،والتواصل معه يأخذ اشكالا عديدة طوال الوقت،ولا يحتاج الامر الى السفر اليه بموافقات اسرائيلية، كما يروج اصحاب الدعاوى المضللة المغرضة،فدعم الفلسطيني تحت الاحتلال لا يتأتي بالاعتراف بالمحتل وتكريس سلطته،وانما بآليات اخرى اهمها حصار القوة الغاصبة المتواصل ورفض التعاطي معها ومع ابنائها والفضح المستمر لممارساتها العدوانية في كل محفل واحياء الذاكرة الجمعية والالتفاف حول القضية الفلسطينية وتمجيد بطولاتها ورموز نضالها،والتأكيد المتواصل انها قضية العرب المركزية،وان الصراع عربي اسرائيلي وليس فقط فلسطيني .

وفي تصوري ان الدعم الحقيقي والاكبر هو حماية الحقوق الفلسطينية من الضياع وعدم التسليم للعدو او الاعتراف بشرعية وجوده مهما طال الزمن،والاهم من هذا مواجهة كل محاولة لاختراق ثقافة الرفض،ونبذ كل من يحاول الخروج عن الاجماع الشعبي،وعزله حتي يعود الى جادة الصواب او يبقي مذموما مدحورا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق